كان رد فعل عباس رئيس “السلطة الفلسطينية” غير الشرعي على صفقة القرن قويا، وولد في النفوس الفلسطينية أملا جديدا في إحداث تغيير جوهري يُخرج الشعب من وضع المهانة والهوان إلى وضع من الكرامة والعزة. لقد هدد وتوعد، ووعد بمرحلة فلسطينية جديدة، ودعا الفصائل إلى اجتماع، وضرب لحن الوحدة الوطنية. بعث كلامه تفاؤلا في الشارع الفلسطيني على الرغم من إدراك الفلسطينيين من قدرة الأعداء على مضايقتهم معيشيا في حال أصبح هناك منحى فلسطيني جديد يحرص على الحقوق الفلسطينية.
لكن مفعول خطاب عباس لم يدم طويلا بعدما قرر الذهاب إلى جامعة عربية غير موثوقة ومتآمرة أحيانا وألقى خطابا دمر ما أتى به في خطابه الأول. قال عباس إنه قطع علاقاته مع الصهاينة والأمريكان وبالتحديد العلاقات الأمنية. لكنه أشار إلى أنه بعث برسالتين إلى نتنياهو وترامب بشأن قطع العلاقات. وهنا لا بد من طرح السؤال: هل يتطلب قطع العلاقات إرسال رسائل؟ مجرد إرسال رسالة يعني الحنين إلى العلاقات، ويشير إلى أن النفس تبقى تواقة لاستمرار ما كان مألوفا. وهذا بحد ذاته يدعو الأعداء إلى الاستمرار في الاستهزاء من الفلسطينيين وممن يقودهم ولو بصورة غير شرعية. وبالإضافة، كانت رئيسة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تزور رام الله في الوقت الذي كان يعلن فيه عباس قطع العلاقات الأمنية. وقالت السيدة الرئيسة إن التنسيق الأمني ما زال قائما ومستمرا. ألا يجب أن نحمد الله على وجود أعداء لنا يقولون لنا الحقيقة؟
والأهم أن عباس أباح وبوضوح أنه طالب بدولة فلسطينية منزوعة السلاح. أي أنه لا يريد دولة. وهذا ما رددته على قرائي ومستمعي عبر السنوات. قلت للناس إن أعمال عباس وسياساته لا تشير إلى أنه يريد إقامة دولة فلسطينية، وإنما تؤدي أعماله وسياساته إلى تدمير كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إقامة دولة حقيقية. طبعا إذا كانت الدولة بدون سلاح فهي ستكون بدون سيادة. وأي كيان أو تجمع لا يقوى على الدفاع عن نفسه أو لا يعد العدة للدفاع عن نفسه لا يمكن أن يكون صاحب سيادة إلا إذا قرر الآخرون تركه وشأنه. السلاح مقوم وعامل أساسي في تأكيد سيادة الدولة، والدولة التي تنقصها السيادة ليست دولة. أركان الدولة يتم اختصارها بالأرض والشعب والسيادة. دولة عباس بلا أرض وبلا سيادة. هم (أصحاب أوسلو) لا يريدون دولة، ولو كانوا يسعون لإقامة دولة لما كانت تصرفاتهم الداخلية على الشاكلة التي خبرناها منذ عام 1993.
والسؤال الكبير يتمثل في: كيف ستكون هناك مصالحة فلسطينية إذا كان عباس يريد دولة بدون سلاح؟ المعنى أنه سيعمل على نزع سلاح المقاومة مثلما يطلب ترامب. وهل تقبل المقاومة التخلي عن سلاحها؟ بالنسبة للشعب الفلسطيني أو أغلبيته، سلاح المقاومة مقدس بينما التنسيق الأمني ليس مقدسا وإنما قذر ونجس ودنس. وسلاح المقاومة هو الظهير الوحيد الذي يمتلكه الشعب الفلسطيني الآن، وملاحقته يعني تجريد الشعب الفلسطيني من مصدر قوته الوحيد. وهنا لا بد من التأكيد على أن “السلطة الفلسطينية” منذ إنشائها حتى الآن وهي تعمل على إضعاف الشعب الفلسطيني أمنيا وعسكريا واجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا وتعليميا وتربويا وماليا. لم يترك رئيس السلطة فرصة لإضعاف الشعب إلا استغلها ومن ضمنها إضعاف حركة فتح.
من يرمي إلى نزع سلاح المقاومة لا يريد مصالحة ولا يريد إقامة وحدة وطنية فلسطينية.
هرول عباس إلى الفصائل الفلسطينية والجامعة العربية لاكتساب شرعية لأعماله ونشاطاته. هو يدعو الفصائل للاجتماع كما العادة لكي يوصل رسالة للشعب الفلسطينية مفادها أنه شرعي ما دامت الفصائل تستجيب له. والفصائل ساعدته كثيرا على الخروج من أزماته دون أن يفي بوعوده لتحقيق مصالحة ووحدة. وبعض الفصائل للأسف الشديد تعلم أنها موضوع المؤامرة والتعاون مع الخارج من أجل التخلص منها، لكنها لا تملك من الفكر السياسي ما يؤهلها لتقييم أضرار أعمالها على المقاومة وعلى الشعب. وهو يذهب إلى الجامعة العربية لاكتساب شرعية عربية علما أن أمين عام الجامعة العربية من كبار المطبعين مع الكيان الصهيوني، وبعض دول الخليج المتآمرة مع الصهاينة هي التي تسيطر على الجامعة وتوجهها. والجامعة تضم ثلاثة أطراف يعترفون بالكيان الصهيون وهم مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
المشكلة أن عباس لا يحترم الشعب الفلسطيني، وهو يختطف الشعب منذ عام 2009 عندما انتهت مدته كرئيس للسلطة. بلغ من العمر عتيا وهو لا يعرف طريقه نحو إقامة الشرعية. وهو لا يعرف مدى الفوضى المترتبة على عدم وجود شرعية وعلى اغتصاب السلطة رغم أنوف الناس. لو كان صاحب إنجازات عظيمة، وصاحب خطط واستراتيجيات وبرامج يطرحها على الشعب لتبنيها من أجل مواجهة التحديات لغض العديد من الناس الطرف عن أعماله، لكنه على مدى سنوات تسلطه لم يطرح برنامجا ولا خطة ولا رؤية على الشعب من أجل تمتين قواه، ولم يطلب من الشعب حشد القوى والطاقات من أجل مواجهة مخططات الأعداء. وفي حال غياب الشرعية تسود الفوضى ويسود التمزق وتسود الفتن. هو غير مكترث بكل هذا. وسبق أن تحدثت حول هذه المسألة مرارا على الشاشات. وذات مرة اعتقلوني أنا على اعتبار أنني أثير فتنة، بينما عباس هو الذي يصنع الفتن بسبب امتناعه عن تطبيق القوانين الفلسطينية. النيابة الفلسطينية العامة تغض الطرف عن انتهاكه للقوانين وكذلك أغلب المحامين والقضاة الذين يجب أن يكونوا في مقدمة الناس المدافعين عن إقامة الشرعية. عباس ومن معه يجب أن يحاكموا حول انتهاكهم للقوانين، وتجب محاكمة كل الذين تستروا على هذه الانتهاكات.
وعلى هذا، أدعو الشعب الفلسطيني إلى عدم الإفراط في التفاؤل بأن صفقة القرن لن يتم تطبيقها. فإذا كانت عناصر من السلطة، وفق تحقيق قامت به شبكة الجزيرة حول تسريب عقارات في القدس، تغض الطرف عن عمليات التسريب أو بعضها، فهل سيكون هناك من يقبض مالا مقابل تسهيل اعتداءات الصهاينة؟ الوضع الفلسطيني مزري جدا على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والوطنية والأمنية والأخلاقية، ولا يصحح الوضع إلا الشعب الفلسطيني نفسه. ولهذا يجب ألا نكون أسرى للرواتب وإنما للوطن والمواطنين فقط. مستقبل البلاد والأجيال في خطر شديد وعلينا أن نتدارك أمرنا لنحسن أوضاعنا. الحلول لما نحن فيه متوفرة ومنها ما قد تم نشره على مدى السنوات، وكل من يرغب في الاطلاع يتم العمل على تزويده بما يلزم. وهنا لا بد من القول إن الصهاينة والأميركان لن يكتفوا بالاستيلاء على الأرض، بل هم يريدون الأرض بدون سكان. وعليه سيعملون في المرحلة التالية على خنقنا أمنيا ومعيشيا من أجل أن نهاجر باحثين عن أسباب المعيشة. علينا وعلى الأردنيين الحذر الشديد مما هو قادم. وإذا بقينا على ما نحن فيه وعليه فإن الأعداء سينجحون في تحقيق ما يريدون.