الكاتب: حسن لافي
ليس مصادفة أن تضع صحيفة الإيكونوميست علم “إسرائيل” على غلافها وتكتب “إسرائيل وحيدة”، وأن ترفع شعارات “كفاية يعني كفاية” في قلب العواصم الأوروبية، بل وفي قلب أميركا نفسها، الداعمة الأساسية لـ”إسرائيل”.
انقلاب حقيقي في الرأي العام الشعبي الدولي بدأ ينعكس على مواقف الدول الغربية الرسمية، فبتنا نسمع نداء رسمياً من 28 دولة أوروبية ضمن الاتحاد الأوروبي تدعو لوقف الحرب فوراً، بما فيها دول داعمة بالمطلق لـ”إسرائيل” داخل الاتحاد الأوروبي، مثل جمهورية التشيك، إضافة إلى مجموعة العقوبات ومنع تصدير السلاح إلى “إسرائيل” حتى من الدول الداعمة الأساسية لها مثل كندا.
ولم تستخدم إدارة جو بايدن؛ الرئيس الأكثر صهيونية في تاريخ الرؤساء الأميركيين، والداعم والشريك الرئيس لـ”إسرائيل” منذ اللحظة الأولى، حق نقض الفيتو لمصلحة “إسرائيل” في مجلس الأمن في قراره لوقف الحرب في شهر رمضان، كإشارة واضحة إلى حجم قلق الإدارة الأميركية من تفاعل الضغوطات الدولية والشعبية على موقفها الداعم والمشارك في قتل الفلسطينيين، ولا سيما في ظل هذا الظرف الدولي، الذي بات ينظر إلى “إسرائيل” كمتهمة حقيقية بجريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، حتى ولو لم يصدر بعد قرار إدانة من محكمة العدل الدولية.
التحذير الأوضح على خطورة مكانة “إسرائيل” الدولية أتى خلال زيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن وتحذيراته للحكومة الإسرائيلية أثناء زيارته السابعة لـ”إسرائيل” في ظل الحرب، وفي اجتماع رسمي مع مجلس الحرب الإسرائيلي، بأن وضع “إسرائيل” في المجتمع الدولي هو الأسوأ في تاريخها، وأنها فقدت كل الدعم الدولي.
رغم الموقف الأميركي، وهو الأهم بالنسبة إلى “إسرائيل”، والذي يمثل القبة الفولاذية لحمايتها داخل منظمات المجتمع الدولي، الذي يحاول أن يظهر أنه ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وليس ضد “إسرائيل”، فإن التغيرات الاجتماعية المتفاعلة حالياً، والتي ستنضج تداعياتها خلال العقدين القادمين داخل الولايات المتحدة الأميركية، تشير إلى تراجع مهم ومؤثر في قبول الشارع الأميركي للرواية الإسرائيلية، ما سيؤدي إلى انحسار زخم الدعم الأميركي لـ”إسرائيل كدولة” احتلال على الأقل في حدود الـ1967.
هذه المؤشرات تؤكدها مواقف الجامعات الأميركية المرموقة التي تنقض كل الدعاية الإسرائيلية، والتي باتت تشكل تياراً نقدياً تاريخياً وسياسياً لكل ما كان يعتبر ثابتاً ممنوع المساس به في مرتكزات الرؤية الأميركية لـ”إسرائيل” والصهيونية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى تأثير تلك الجامعات في صناعة رؤية القادة والمؤثرين داخل المشهد السياسي والإعلامي والمجتمعي الأميركي خلال السنوات القادمة.
أمام حالة الاستفاقة الدولية المتأخرة التي لم تكتمل بعد، ما زالت السياسة الخارجية الإسرائيلية تتمسك بالدعاية التقليدية باتهام العالم بأسره بكره اليهود واللاسامية، بل اتهمهم نتنياهو بأن ذاكرة المجتمع الدولي ضعيفة، وغيرها من الدعاية الإسرائيلية التي لم تعد تقنع أحداً في العالم، بل باتت موجهة في الأساس إلى الداخل الإسرائيلي من خلال اللعب على عقدة الضحية الدائم لدى اليهودي لتجنيده لأمرين مترابطين؛ الأول، استمرار شرعية حرب الإبادة الجماعية على غزة، والآخر شرعية بقاء نتنياهو في السلطة، لكونه الشخصية الكاريزماتية التي تستطيع مواجهة العالم اللاسامي الذي يريد حرمان “إسرائيل” من تحقيق النصر الحاسم الوهمي، لكن هذه الدعاية الإسرائيلية باتت تدور في حلقة مفرغة إسرائيلية، فمن جهة هناك تطرف وفاشية وانغلاق إسرائيلي لمتطلبات المجتمع الدولي، في ظل حكومة متطرفة ذات أبعاد مشيحانية تلمودية.
ومن جهة أخرى، عندما يعتقد الإسرائيليون أنفسهم أنهم مضطهدون من كل العالم ينغلقون أكثر داخل الغيتو الإسرائيلي الجديد، ويمارسون فاشيتهم أكثر وأكثر، فيزداد الرأي العام الدولي باكتشاف حقيقتهم أكثر وأكثر.
في هذا السياق، من الجدير الإشارة إلى فشل القيادة الإسرائيلية التي ليس لها تقدير موضوعي عما أصاب مكانة “إسرائيل” في العالم، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام معضلة “إسرائيل” الأساسية الممثلة بغياب القيادة السياسية القادرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية السليمة في التوقيت المناسب، بل إن ضعف تلك القيادة وتفضيل مصالحها الشخصية والحزبية والقطاعية الضيقة على المصلحة الإسرائيلية العامة بات أحد عوامل تغذية نبذ “إسرائيل” من المجتمع الدولي، حتى بين حلفائها التاريخيين، ومن بينهم الولايات المتحدة الأميركية.
وهنا ندرك أهمية تصريحات تشاك شومر، رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ داخل الكونغرس، بضرورة إجراء انتخابات إسرائيلية وتغيير حكومة نتنياهو لمصلحة “إسرائيل” وخوفاً على بقاء إحدى ركائز شرعية وجودها.
ورغم الدم الفلسطيني المسفوح منذ 6 أشهر بلا توقف، فقد استطاع ذلك الدم والجوع الفلسطيني الممزوج بالإرادة والتحدي والمقاومة والصمود الانتصار الفعلي على آلة الكذب والدعاية والفبركة الإسرائيلية في معركة تجنيد الرأي العام الدولي.
ورغم أن هذا الانتصار جاء متأخراً جداً، ولم يحقق حتى الآن وقف حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فإنه استطاع مواجهة شراسة التزوير المهول وغير المسبوق الذي مارسته الدعاية الإسرائيلية بعد عملية طوفان الأقصى، والذي أدى إلى انحسارها، الأمر الذي يتطلب من الكل الفلسطيني استثمار تلك المتغيرات الدولية وتجييشها وتجنيدها وتحويلها إلى قرارات فاعلة لوقف الحرب على غزة.