الكاتب: وسام إسماعيل
مشروع نتنياهو للهيمنة الإسرائيلية على المنطقة لا يُعَرف من خلال انفصال الكيان عن الواقع الذي تحاول الولايات المتحدة أن تفرضه في المنطقة، وإنما من خلال تعريف الدور الإسرائيلي بطريقة مختلفة.
أظهرت التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي أمام الكنيست تحوّلاً في شكل العلاقة مع الولايات المتحدة لناحية المجاهرة برفض الانصياع لتوجيهاتها، ورفض الالتزام بالخطوط العريضة للإستراتيجية التي تفترضها الإدارة الأميركية قابلة لتحقيق المصالح العليا لكلا الطرفين.
فقد كان لافتاً إعلان نتنياهو إصراره على دخول منطقة رفح، رغم تهديد بايدن له بأنه سيكون وحده هناك، بالإضافة إلى إعلانه أن قرار اغتيال سيد شهداء الأمة سماحة السيد حسن نصرالله قد اتخذه خارج المجلس الوزاري المصغر خلال سفره إلى الولايات المتحدة الأميركية، مستنداً في ذلك إلى فرضية أن الحرب الوجودية التي يخوضها في القطاع والخطر الداهم على حدوده الشمالية تتطلب منه التحرك خارج الأطر المسموح بها.
بطبيعة الحال، لا يمكن اعتبار السلوك الإسرائيلي مرفوضاً، من حيث المبدأ والأهداف، من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتوان عن محاولة كسر حلقات المحور طيلة سنوات خلت. فالحظر المفروض على الجمهورية الإسلامية ومحاولة التضييق عليها واتهامها برعاية الإرهاب في المنطقة، بالإضافة إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، واغتيال القائد سليماني من دون أن ننسى إدارتها للحرب على اليمن وسوريا واحتلال العراق وإدارتها جبهة لبنانية لمواجهة حزب الله، معطوفاً على اعترافها بالقدس عاصمة للكيان والاعتراف أيضاً بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، والتمويل والدعم العسكري غير المشروط أو المحدود للكيان يؤكد هذا الواقع.
وعليه، يمكن التقدير أن السلوك الإسرائيلي الحالي الذي يحكم سياقات التفاوض الحالية يفترض ضرورة البحث في الدوافع والأهداف التي شكلت سبباً لهذا السلوك.
حتى ما قبل “طوفان الأقصى”، كان الكيان الإسرائيلي يفترض أن حفظ أمنه القومي قد يتحقق من خلال علاقته الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وتحقيق ردع فاعل في مواجهة أعدائه عبر مراكمة قوة عسكرية جرارة تجعل أي خصم يفكر كثيراً قبل اتخاذ قرار بالمواجهة، بالتوازي مع محاولة تشبيك علاقاته مع أكبر عدد من الدول العربية من خلال تطبيع العلاقات معها.
وفق هذا السيناريو، كان التوافق مع الإستراتيجيات الأميركية ملموساً بقوة، إذ إن الركيزة الأساسية لهذه الإستراتيجيات قد بلورتها الإدارات الأميركية المتعاقبة من خلال ضمان التفوّق العسكري التقليدي وغير التقليدي للكيان، ونسج تحالف عميق مع من سمّتها دول الاعتدال، بالإضافة إلى تكثيف وجود قواتها في قواعدها المنتشرة في المنطقة تحت عنوان حفظ الأمن والاستقرار الإقليميين في مواجهة قوى المقاومة المتهمة بزعزعة هذا الاستقرار.
وعليه، فالواقع الذي أفرزه “طوفان الأقصى” لناحية سقوط نظرية الردع الإسرائيلي التقليدية، والفشل في منع قوى المحور من مراكمة القوة قد دفع بنيامين نتنياهو، مستنداً إلى حلفائه من اليمين المتطرف، إلى محاولة إعادة صياغة محددات السلوك الإسرائيلي وفق أسس مختلفة تظهر، نظرياً على الأقل، انقلاباً على الواقع التقليدي الذي حكم علاقته بالولايات المتحدة منذ تبلورت علاقتهما الإستراتيجية بشكلها الحالي، أي بعد حرب 1967 لناحية محاولة فرض تعريف جديد لكيفية حفظ الأمن القومي. فالإصرار الإسرائيلي على تعريف مخاطر الأمن القومي حالياً وفق مفهوم الحرب الوجودية بما يفترض حرية التحرك بشكل متفلت من أي ضوابط أو قيود، أو حتى بشكل منفصل عن الأسس التي تقررها الولايات المتحدة على أنها مناسبة في هذه المرحلة لا يُفسر على أنه خروج على الأهداف الأميركية الإستراتيجية في المنطقة، وإنما يمكن تقديره على أنه محاولة لفرض أطر جديدة لهذه الإستراتيجية.
فالإصرار على الحسم العسكري في غزة، وعدم الانفتاح على أي اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة المقاومة الإسلامية، مع التشديد على نهائية قرار القضاء عليها وفرض سيطرة أمنية على القطاع في شماله ووسطه وفي منطقة رفح، بالتوازي مع إصرار الكيان على القضاء على حزب الله أو على الأقل إخراجه من جنوب الليطاني ومحاولة إضعاف دوره في المعادلات السياسية الداخلية اللبنانية، وتسهيل وصول رئيس متواطئ يضمن التوصل إلى اتفاق سلام وتطبيع للعلاقات مع لبنان، بالإضافة إلى الترويج لمخطط تغيير وجه الشرق الأوسط وجعله إسرائيلياً من خلال محاولة توسيع دائرة المواجهة لتطال سوريا والعراق والجمهورية الإسلامية من دون أن ننسى اليمن يجعل من الممكن الحديث عن محاولة إسرائيلية جادة لحفظ الأمن القومي من خلال الهيمنة المباشرة للكيان على المنطقة.
في هذا الإطار، يمكن التقدير أن استخدام الكيان للقوة المفرطة في مواجهة قوى المقاومة يستهدف عدم السماح بالركون إلى حلول وسطية تعيد الأمور إلى ما قبل “طوفان الأقصى”، وإنما يحاكي فرض واقع جديد يخلو من أي تهديد حقيقي لمصالح الكيان ووجوده. بالطبع، يستند الكيان في تحقيقه لهذا الواقع إلى جملة من المرتكزات التي لا يمكن القفز فوقها أو محاولة تحقيق مشروعه بمعزل عن حتمية الاعتماد عليها.
فرئيس حكومة الكيان متيقن من أن إمكانات الكيان العسكرية والمادية لا تساعد وحدها في بلورة مشروع بحجم ما يطمح إليه. فالعجز عن تحقيق هدف القضاء على المقاومة في غزة، بالإضافة إلى الفشل في تحقيق الأهداف من الحرب على لبنان، معطوفاً على عدم القدرة على فك الحصار اليمني المفروض على البحر الأحمر وعدم القدرة على مواجهة القوة الصاروخية الإيرانية وتعطيل البرنامج النووي الإيراني، كلها أسباب تفرض ضرورة الاستعانة بالدعم الأميركي العسكري والمالي اللامحدود، بالإضافة إلى ما يقدمه التواطؤ العربي عبر مسارات التطبيع التي أثبتت من خلالها عدة دول عربية حقيقة خضوعها لمسارات الإستراتيجية الأميركية.
وبالتالي، يمكن التقدير أن مشروع نتنياهو للهيمنة الإسرائيلية على المنطقة لا يُعَرف من خلال انفصال الكيان عن الواقع الذي تحاول الولايات المتحدة أن تفرضه في المنطقة، وإنما من خلال تعريف الدور الإسرائيلي بطريقة مختلفة.
في هذا الإطار، انطلق نتنياهو من تعريفه لمحور المقاومة كخطر داهم على وجوده، ومن نجاحه في تحييد دول التطبيع العربية وإحجامها عن التدخل كطرف مناصر لقضية فلسطين واكتفاء بعضها بدور الوسيط نحو محاولة إعادة صياغة متطلبات الأمن القومي وفق مفهوم الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
وبالتالي، لم يكن التمرد الإسرائيلي الشكلي على الإدارة الأميركية إلا مناورة يستهدف من خلالها الإيحاء بإصراره على صياغة متطلبات أمنه القومي، مستفيداً من تداعيات “طوفان الأقصى” على الداخل الإسرائيلي ومن تقديرات تعد ما تم تحقيقه في غزة وبين 17 و27 أيلول من إنجازات تكتيكية في مواجهة حزب ألله كافية لاستكمال مخططه، وإظهار قدرته على تحقيق ما عدّته إدارة بايدن ينطوي على مخاطر لا يمكن تحملها.
فالواضح بالنسبة إليه أن الهيمنة الإسرائيلية باتت مكتملة الأركان ومقبولة من قبل دول التطبيع، وبالتالي يمكن من خلال استكمال مسار العدوان على غزة ولبنان، العمل على بسطها في المنطقة بأكملها.