بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان
تنفّس عبد الرحيم محمود الوطن وحبّه، فقرظ الشعر، وقاوم بعلمه وسلاحه المحتلين حتى استشهد بقذيفة أصابته في رقبته، مقبلًا غير مدبر. لُقِّب بالشاعر الفلسطيني الشهيد.فقد استشهد عبد الرحيم محمود يوم (13/7/1948)، في معركة الشجرة وهي قرية عربية فلسطينية تقع في منطقة الناصرة وتقابلها مستعمرة يهودية باسم “السحرة”.
كان عبد الرحيم على رأس مجموعة من رفاقه المناضلين أبلى فيها بلاءً كبيراً واستولى على بعض مواقع الأعداء وفيما كان يخوض غمار المعركة أصابته شظية من مدفع فسقط جريحاً على الأرض فسارع بعض رفاقه ونقلوه في سيارة جيب إلى المستشفى في مدينة الناصرة وفي الطريق أخذ يردد على مسمع إخوانه في الجهاد بصوته الجريح الأبيات التالية:
احملوني..احملونــي واحذروا أن تتركوني
وخذوني لا تخافـوا وإذا مت ادفنونــي
وقبل أن تبلغ السيارة الناصرة هوت في وادٍ سحيق ففاضت روحه إلى بارئها.
مولده
وُلِدَ عبد الرحيم محمود في (بلدة عنبتا – طولكرم) بفلسطين عام 1913 في أسرة متدينة متوسطة الحال: كان الشيخ محمود عبد الحليم عبدالله (والد الشاعر)، شاعراً تخرَّج في (الأزهر الشريف)، وهو من (فرع الفقهاء في عنبتا)، الذين اشتهروا بانحيازهم إلى المذهب (الحنبلي).
أنهى عبد الرحيم محمود دراسته الابتدائية في (عنبتا) عام 1925، ثم أكمل دراسته المتوسطة في مدينة طولكرم، وأكمل دراسته الثانوية بكلية النجاح في مدينة نابلس في العام الدراسي (1929-1930)، وكان من المتميزين في اللغة العربية والدين والتاريخ. وبعد تخرجه عمل مدرساً للأدب العربي في مدرسة النجاح الوطنية.
وتتلمذ في هذه المدرسة على يد الشاعر إبراهيم طوقان والأساتذة د.محمد فروخ، وأنيس الخولي، وقدري طوقان. فتشرب منهم حب المعرفة والاعتزاز بالنفس والوطن والثورة على الظلم.
في عام 1935م حضر من سوريا الشيخ عز الدين القسام؛ ليشارك في الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين وعمره أربعة وستون عاماً، واعتصم بالجبل مع رفاقه من مِصْر وفلسطين، وظلوا يقاومون جنود الإنجليز حتى اسْتُشْهِد الشيخ السوري يوم 20 كانون أول/نوفمبر 1935م.. فأصبح الشيخ عز الدين القَسَّام مثلاً أعلى للمقاومة وإرهاصاً للثورة التي بدأت بإضراب يوم 20 نيسان /أبريل 1936م، فانخرط فيها الشاعر الشاب عبد الرحيم محمود ونذر نفسه للوطن، فاستقال من مدرسة النجاح وعَبَّر عن موقعه في إحدى قصائده قائلاً:
واغْصِبْ حُقوقَك قَطُّ لا تَسْتَجْدِها إن الألى سلبوا الحقوق لئامُ
هذي طَرِيْقُكَ فِي الحَياة فلا تَحِـدْ قَدْ سـَارَها مِنْ قَبْلِكَ القَسَّامُ
والتحق عبد الرحيم محمود بالثورة الفلسطينية الكبرى، تحت قيادة المجاهد الشهيد (عبد الرحيم الحاج محمد)، فأصبحت قوات الاحتلال البريطاني تطارده للقبض عليه، فارتحل إلى دمشق، ثم إلى بغداد. وما لبث أن دخل الكلية العسكرية في بغداد لمدة عام واحد (1939-1940)، وتخرج فيها برتبة (ملازم ثان)، وهناك تعرَّف إلى الشهيد عبد القادر الحسيني، بطل (معركة بني نعيم الكبرى)، وبطل (معركة القسطل) التي استشهد فيها. بعد ذلك، التحق عبد الرحيم محمود مدرّساً ومديراً لمدرسة (العشّار) في البصرة (1940-1941). وعندما قامت ثورة (رشيد عالي الكيلاني) في العراق، التحق الشاعر بها وشارك في (معركة سن الذبّان) التي جرت في أيار 1941، حسب رواية (جبرا إبراهيم جبرا) للكاتب والشاعر عزالدين المناصرة. ثمّ قرّر الشاعر العودة إلى فلسطين، فقطع الصحراء العراقية – السورية، عائدًا لبلده(1).
ولمّا هدأت الأوضاع في فلسطين لانشغال إنجلترا بالحرب العالمية الثانية عاد عبد الرحيم إلى بلده واستأنف العمل معلماً بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس (أكتوبر 1941، وحتى 1947). وكان قد تزوج عام 1942 من ابنة خاله (محفوظة نصّار)، حيث أنجبا ثلاثة: (الطيّب، وطلال، ورقيَّة).
في سنة 1947 اشتعلت الثورة الفلسطينية من جديد بسبب صدور قرار تقسيم فلسطين؛ فقرَّر شاعِرُنا الانضمام إلى جيش الإنقاذ، ودخل إلى منطقة بلعا في فلسطين واشترك في معركة بيار عدس مع سرية من فوج حطين، وشارك في معركة رأس العين، وفي نيسان /إبريل 1948م عُين آمرًا للانضباط في طولكرم، ثم مساعدًا لآمر الفوج في الناصرة(2).
كما شارك في (معركة الشجرة) الشهيرة، التي استشهد فيها بتاريخ (13/7/1948)، ودُفن في (مدينة الناصرة) الفلسطينية(3).
و(الشجرة) قرية عربية تابعة لطبرية، وقد أنشأ الإسرائيليون بجوارها مستعمرة اسمها (السجرة) بالسين، وكانت منطقة ساخنة تدور فيها معارك كثيرة بين سكان الشجرة المسلمين والمسيحيين وبين اليهود بالسجرة.
ووصف في قصيدته المعنونة بـ(الشهيد)، حاله حين الاستشهاد، وإصراره على القتال حتى الشهادة، فقال:
ســأحمل روحــي عـلى راحـتي وألقــي بهـا فـي مهـاوي الـردى
فإمــا حيــاة تســر الصــديق وإمــا ممــات يغيــظ العــدى
ونفس الشـــريف لهــا غايتــان ورود المنايـــا ونيـــل المنــى
ومـا العيش؟ لا عشـت إن لـم أكـن مخــوف الجنــاب حـرام الحـمى
إذا قلــت أصغــى لـي العـالمون ودوى مقـــالي بيـــن الــورى
لعمـــرك إنــي أرى مصــرعي ولكـــن أعــد إليــه الخــطى
أرى مصـرعي دون حـقي السـليب ودون بـــلادي هـــو المبتغــى
يلــد لأذنــي ســماع الصليــل ويبهــج نفســي مســيل الدمــا
وجســم تجـدل فـوق الهضاب تناوشـــه جارحـــات الفـــلا
فمنــه نصيــب لأســد السـماء ومنــه نصيــب لأســد الــثرى
كســـادمه الأرض بـــالأرجوان وأثقــل بــالعطر ريــح الصبـا
وعفـــر منــه بهــي الجــبين ولكـــن عفــارا يزيــد البهــا
وبــان عــلى شــفتيه ابتســام معانيـــة هــزء بهــذي الدنــا
ونـــام ليحــلم حــلم الخــلود ويهنــأ فيــه بــأحلى الــرؤى
لعمــرك هــذا ممــات الرجـال ومــن رام موتــا شــريفا فــذا
فكــيف اصطبـاري لكيـد الحـقود وكــيف احتمــالى لســوم الأذى
أخوفــا وعنــدي تهــون الحيـاة وذلا وإنــــي لـــرب الإبـــا
بقلبــي ســأرمي وجــوه العـداة فقلبــي حــديد ونــاري لظــى
وأحــمي حيــاضي بحـد الحسـام فيعلـــم قــومي بأنــي الفتــى
شخصيته وأوصافه وصفاته
كان الشاعر عبد الرحيم محمود مربوع القامة، أسود العينين، كثيف الشعر، بشوش الوجه، لطيف المعشر، حاضر البديهة، يجيد الفكاهة والنكتة، وهو محدث حلو الحديث ومجلسه مؤنس، وإلى جانب تلك الصفات كان مخلصاً في صداقاته ويتحلى بالخلق النبيل إذا امتلأ قلبه رقة ورحمة وحناناً وكان معلماً صادقاً في أداء واجبه، وفياً لرسالته محبوباً من قبل زملائه لطيفاً في معاملة طلابه(4).
آراؤه الوطنية
تميز الشاعر عبد الرحيم محمود بآرائه الوطنية التي صاغها شعرًا وعاشها حياة، فاستحق أن يكون مثلاً أعلى لشباب فلسطين في الكفاح والصدق، نلقي الضوء على بعضها:
– في 14 آب / أغسطس 1935م زار قرية عنبتا الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية (الملك سعود فيما بعد)، فألقى عبد الرحيم بين يديه قصيدة وكان عمره اثنين وعشرين عامًا قال فيها:
يا ذا الأمير أمام عَيْنِـك شاعرٌ ضُمَّت على الشَّكوى المريرة أَضْلُعُهْ
المَسجد الأقصى أَجِئْتَ تَزُورُه؟أم جئـت من قِبَلِ الضِّبَـاع تُوَدِّعُهْ؟
حَـَرمٌ مُبـاحُ لكـل أَوْكَعَ آبقٍ ولكـلِّ أَفَّــاقٍ شـَرِيدٍ، أَرْبُعُه
وغداً وما أدناه، لا يبقى سوى دَمْعٍ لنـا يَهْمَـي وَسِـنٍّ نَقْرَعُه
وهنا يتضح بُعْدُ نظر الشاعر الشاب ورؤيته الواقعية للظروف العربية شعوبًا وحكامًا.
– وفي قصيدته (دعوة إلى الجهاد) يقول مستهتراً بالموت فداء للوطن:
دعا الوطن الذبيح إلى الجهادفَخَفَّ لِفَرْطِ فَرْحَتِه فؤادي
وَسابَقْتُ النَّسِيمَ ولا افتخارٌأَلَيْسَ عليّ أن أَفْدِي بِلادِي
حَمَلْتُ عَلَى يَدِيْ رُوحي وقلبيوما حَمَّلتُها إلا عتادي
فسِيْرُوا للنِّضَالِ الحقِّ ناراً تَصُبُّ على العِدَا في كل وادِ
فليس أَحَطُّ من شَعْبٍ قَعِيْد عن الجَلَّى وموطنه ينادي(5).
شعره
خَلَّف عبد الرحيم محمود عددًا من القصائد كتبها بين عامي 1935م، 1948م.. جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية. وصدر ديوانه في عَمَّان عام 1958م وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة. هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح.
يتَّصف شعر عبد الرحيم محمود بالوجدانيَّة العاليّة، وبجزالة الألفاظ، وتهييج المشاعِر، وإثارة النفوس، وبصورِه الفنيِّة الباعثة على النهوض وبتحريضه الثوريّ على الجهاد فما أُخِذَ بالقوّة لا يستردُّ إلا بها:
الحَقُّ ليسَ براجعٍ … لذويهِ إلا بالحرابْ
الصَّرخةُ النكراءُ تجدي لا التَلطُّفُ والعتابْ
والنارُ تضمنُ والحديدُ لمن تساءلَ أن يُجابْ
حَكِّمهما فيما تُريدُ ففيهما فصلُ الخطابْ
الظلمُ يرهَبُ أوجُهاً بدمٍ تَضرَّجَ.. لا خُضابْ
فشلِ الذي جعلَ الكلا مَ مِجنَّةً تحمي، ونابْ
ويقول مزمجراً في وجهِ الاحتلال الإنكليزي لبلاده:
قَل لا وَأَتَّبِعها الفِعالَ وَلا تَخَف وَاِنظُر هُنالِكَ كَيفَ تُحنى الهامُ
اِصهَر بِنارِكَ غُلَّ عُنقِكَ يَنصَهِر فَعَلى الجَماجِمِ تُركَزُ الأَعلامُ
وَأَقِم عَلى الأَشلاءِ صَرحَكَ إِنَّما مِن فَوقِهِ تُبنى العُلا وَتُقامُ
وَاِغصب حُقوقَكَ قَطُّ لا تستَجدِها إِنَّ الأَلى سَلَبوا الحُقوقَ لِئامُ
هذي طَريقُكَ لِلحَياةِ فَلا تَحِد قَد سارَها مِن قَبلِكَ ((القَسّامُ))
وتتنازعُ في نفسهِ عديدُ الاتجاهات فتارةً يتعصَّبُ لقوميَّتِهِ العربيّة:
فإذا تشكَّى النيلُ من آلامِهِ شَقَّت مرائرَ دجلةَ الآلامُ
وإذا تنادى المغربُ الأقصى لدى جُلَّى استجابات للنداء الشامُ
ذهبت خُرافاتُ الحدود فكلُّها وطنٌ لنا لو صحَّتِ الأفهامُ
ثُمَّ ما يلبثُ أن يقولَ بروحٍ إسلاميَّةٍ آسِرَة:
والحُرُّ وابنُ الحُرِّ ليس مطيَّةً يُمطى ويَكبَحُ أصغريهِ لِجامُ
فيقولُ حقَّاً ليس يخشى لومةً والحقُّ أروعُ ما حوى الإسلامُ
وها هو يصدحُ بشعر الحِكمةِ هادراً:
والنَّاسُ إنْ مَلَك الشعابذُ رأيهم وشرى ضمائرَهُم فَهُم أنعامُ
وعمالُقُ التفكيرِ إن لم يحصنوا من لَوثَةٍ – أفكارَهُم – أقزامُ
وإذا أطعنا راعيا ذا قســوةٍفيما يريدُ فنحنُ والأغنامُ
أي فنحنُ والأغنامُ سواءٌ.
فلإغلاظه على القاعدين قِصةٌ أُخرى:
وقلتُ لمن يخاف من المنايا أتفرَقُ مِن مُجابَهةِ العوادي؟
أتقعدُ والحِمى يرجوك عونا وتجبنُ عن مُصاوَلَةِ الأعادي
فدونكَ خدْرَ أمِّكَ فاقتعدهُ وحسبُكَ خِسَّةً هذا التهادي
فللأوطان أجنادٌ شِدادٌ يكيلون الدمارَ لأيِّ عادِ
ويرى بأنَّ فلسطين هي المؤشر على مدى صحوةِ الأمَّة أو غفلَتِها:
إذا ضاعَت فلسطينٌ وأنتمْ على قيدِ الحياةِ ففي اعتقادي
بأنَّ بني عروبتنا استكانوا وأخطأَ سعيهم نهجَ الرشادِ
ويعزُّ على الشاعر الشهيد تقليدُ أبناء أمَّته للغرب:
يترسَّمونَ الغربَ حتى يوشكوا أن يعبدوه عبادةَ الأصنامِ
ما قلَّدوهم مبصرين وإنَّما تبعوا نظامهمُ بغيرِ نظامِ
للغربِ عاداتٌ كغازاتٍ سَرت في الشرقِ مسرى الداءِ بالأجسامِ
لا تأمنوا المستعمرين فكم لهم حربٌ تُقنِّع وَجهها بسلامِ
وقد ذكرَ الشاعرَ محمود العيدَ غيرَ مرَّةٍ في ديوانهِ المجموع علَّهُ يلتقط أنفاسَهُ:
في العيدِ تُلتئمُ الجراحُ وتُرقأُ العينُ القريحةْ
وله عِدَّةُ قصائدَ يمدحُ العمَّال فيها، وله بعض الغزل وكان لهُ بعضُ اللزوميَّاتِ القليلة منها:
بَغَى في قسمةِ الأرزاقِ ناسٌ وقالوا: هكذا قسمَ الإلهُ
وقالوا: إنْ أحبَّ الله عبدًا برِزقتِهِ المُقدَّرَةِ ابتلاهُ
دَعونا إن يكن هذا صحيحًا يَرَ الفقراءُ معبوداً خلاهُ
رأيتُ القلب إمَّا ضاق صبرًا بمحبوبٍ لحرمانٍ سلاهُ
لقد وصفوا الإله بِشَرِّ ظُلمٍ بما كذبوا تنزَّه في علاهُ.(6)
فارس الوطن..
وبعنوان: (عبد الرحيم محمود: فارس الوطن.. فارس القصيدة)، أصدر الكاتب الفلسطيني يوسف حطيني كتاباً، جاء في مقدمته: “هل ثمة شاعر يمكن أن يكتب قصيدةً فائقة الجمال تخلّد نضال ثورة من ثورات الشعوب؟..وهل ثمة مناضل يمكن أن يختزل القصائد كلها في دمٍ أراقه على مذبح هذه الثورة؟..إذا وُجد مثل هذا الشاعر، وقد وُجد في ثورتنا الفلسطينية، فإنه يمثل أنبل ما يمكن أن ينجزه المبدِع الذي يعيش قضيته… وإذا وُجد مثل هذا المناضل -وقد وُجد في ثورتنا الفلسطينية- فإنّه يبلغ من الخلود غايته النبيلة، ومن المجد ذروته السامقة…. ولكن!… ماذا يمكن أن يقول الخلود؟ وكيف يمكن أن يصف المجد رجلاً جمع الأمرين معاً، إذ كتب قصيدة الثورة بدمه، وسقى تراب فلسطين أعذب القصائد؟.إنّه عبد الرحيم محمود، ذلك الشاعر الذي حفظنا، منذ نعومة أظفارنا، بيتيه الشهيرين:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرُّ الصـديقَ وإمّا ممـاتٌ يغيظ العدى“
ويضيف: “..ما فعله شاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود الذي لم يكتفِ بالوفاء لبيت قاله، بل بقي وفياً لقصائد كان يبحث عن تجسيدها عبر الشهادة، من أجل تحقيق ذوبان الذات في تحقيق الإرادة الجمعية للشعب العربي المكافح، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً..”.
شاعرية عبد الرحيم
تناول الناقد والشاعر عز الدين المناصرة شاعرية عبد الرحيم محمود فكتب: ظهر في فلسطين قبل نكبة عام 1948، أي في النصف الأول من القرن العشرين، ما يقرب من خمسين شاعراً فلسطينياً، تتفاوت درجات شاعريتهم، وتختلف من شاعر إلى آخر، لكن الإجماع النقدي تمركز حول ثلاثة، هم: إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، حيث وُصفوا بأنهم الشعراء الأكثر أهمية، وكلهم يكتب الشعر العمودي بلغة فخمة، ويجمعهم الموقف الوطني في (القصيدة الوطنية) والنقد الذاتي الجريء للقيادات التقليدية للحركة الوطنية الفلسطينية في ثلاثينات القرن العشرين، واستبصارهم المسبق لخطر الحركة الصهيونية، وحين نقرأ (ديوان عبد الرحيم محمود)، نستطيع تقديم الملاحظات التالية:
أولاً:اشتهر عبد الرحيم محمود بقصيدته (سأحمل روحي على راحتي….)، منذ عام 1958، بعد صدور الطبعة الأردنية لديوانه، ما جعل القراء والنقاد، يعتبرونه من (شعراء الواحدة)، وتمَّ التركيز فيما كتب عنه أنه (شاعر وطني شهيد). وهكذا، تمَّ إخفاء الجوانب الأخرى في شعره: القصائد العروبية، والإسلامية، والطبقية الاشتراكية!!.لكن صدور (الأعمال الكاملة)، بإضافة (29 قصيدة لم تنشر)، عام 1988، جعل الباحثين يعاودون النظر في تقويم شعر هذا الشاعر المتعدد، فهو يمتلك قصائد عروبية وإسلامية الطابع، وقصائد ذات روح طبقية اشتراكية، وقصائد غزلية، وقصائد فلسفية وجودية تأملية، متأثرة بفلسفة شعر أبي العلاء المعرّي. وهذا ما يعني أنه استشهد مظلوماً، وظُلم شاعراً بعد استشهاده!!.
ثانياً: أظهرت (الأعمال الكاملة، 2009) أنَّ شعر عبد الرحيم محمود، يمتلك فخامة لغوية، ومعرفة عميقة بالتراث، ومعرفة بأسرار اللغة العربية (كما في نقده لجبران خليل جبران)، حتى نكاد نقرر أن معجمه الشعري، هو تراثيٌّ بالكامل.
ثالثاً: بتقديري الشخصي ـ والكلام للمناصرة ـ، أن (اللهجات العربية، هي المنجم الذهبي للغة العربية الفصحى)، وكان عبد الرحيم محمود قد انتقد في مقالاته (شعر جبران)، بسبب استعماله لبعض الصيغ والمفردات اللهجية في شعره، لكن المفارقة هي أن عبد الرحيم محمود، استخدم أيضاً بعض الألفاظ اللهجية القريبة من الفصحى!!، وإن لم يتحول هذا الاستخدام إلى ظاهرة.
رابعاً: هناك ظاهرتان فنيّتان في شعر عبد الرحيم محمود، هما: قدرته الفائقة على (حُسن تقسيم الجملة الشعرية) أو البيت الشعري، وقدرته على صياغة السرد الشعري (القصة الشعرية) مع احتفاظ هذا السرد بالكثافة والتوتُر.
خامساً: مارس الشاعر عبد الرحيم محمود في شعره (النقد الذاتي) لصراع قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية التقليدية في ثلاثينات القرن العشرين، على السلطة الوهمية، بينما كانت الحركة الصهيونية، تواصل الاستعداد للمعركة الفاصلة. فالشاعر ينتقد غياب العدالة، وغياب الديمقراطية في حركة الواقع.
سادساً: يقرأ عبد الرحيم محمود في شعره، حركة الواقع، بل والمستقبل، فهو (الشاعر الرائي) للمستقبل. كتب عام 1935 قصيدة بعنوان (المسجد الأقصى)، قال فيها: (المسجد الأقصى أجئت تزورُهُ…أم جئت من قبل الضياع تودّعهُ)(7).
قالوا في عبد الرحيم محمود
أبدى الأدباء الاعجاب بشخصية ونتاج عبد الرحيم محمود، نقتطف من ذلك:
قال الدكتور عيسى الناعوري: “..ينحو عبد الرحيم في مبادئه الإنسانية والوطنية منحى اشتراكياً، فهو ابن الشعب، وأدبه ينبع من صميم الحياة العامة، ويستمد قوته من نفس الشاعر الثائرة المجاهدة التي تتأثر لحالة الشعب، وتثور لهوان الوطن. وهو مجاهد بقلمه ولسانه وهو مجاهد بنفسه يلبي نداء الوطن كلما دعا للثورة على الظلم لقد عاش مجاهداً في شعره ومات مجاهداً في ميادين القتال”.
واعتبر الدكتور عمر فروخأنه: “في فلسطين نفر وقفوا معظم شعرهم في الأكثر على الناحية القومية الوطنية السياسية منهم إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي، وفدوى طوقان”.
ووصف أدهم الجندي محمود بأنه: “شاعر ملهم وفارس بطل وفي المآقي عبرات تنسجم حسرة وأسى لقد ترك للشباب الجيل الجديد عبرة وذكرى في شهادته وتضحيته، فهو رمز الوطنية الخالد والفرقد المنير في مواكب الشهداء الأبرار. كان يرى الوطنية فريضة كتبت على البشر، مداد رسالتها الأرواح فجاهد بيراعه ولسانه وسيفه دون من ولا وهن”(8).
أما أكرم زعيتر، فقال: “إن في الناصرة لقبراً يحس بالوحشة ويشكو الغربة.. وسيظل القبر كئيباً متوحشاً حتى يجيء نصر الله والفتح..”.
وقال جبرا إبراهيم جبرا: “عبد الرحيم محمود هو الشاعر الفارس الأول في شعرنا المعاصر، الذي اتبع القول بالفعل”.
وذكرت فدوى طوقانأن: “صوت شعر عبد الرحيم محمود، هو صوت الشعب الفلسطيني”.
وخاطب محمود درويش عبد الرحيم بقوله: “يا (أبا سلمى)، أنت الجذع الذي نبتت عليه أغانينا، ونحن امتدادٌ لشعرك، ونحن امتداد لشعر إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود”(9).
في الختام، إن الشاعر والشهيد عبد الرحيم محمود، صرخ بالحق صرخات مدوية، وقرن قوله بالفعل وختمه بالشهادة؛ فروى تراب فلسطين بدمه، تاركًا وصيّة أن الأرض لنا وأنها ستعود حتما.. فقال:
“لعمرك هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فدا
بقلبي سأرمي وجوه العداة فقلبي حديد وناري لظى“
هوامش
1- الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913-1948) في ذكراه، بقلم:عزالدين المناصرة،(30-12-2012)، موقع دنيا الوطن.
2- المصدر السابق نفسه.
3- المصدر السابق نفسه.
4- عبد الرحيم محمود الشَّاعر الشهيد، موقع “الساسة بوست” ، (24-1-2016)، وهي منقولة عن جريدة الأسبوع الأدبي العدد 981 تاريخ 12/11/2005م.
5- الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913-1948) في ذكراه، بقلم:عزالدين المناصرة، (30-12-2012)، موقع دنيا الوطن.
6- عبد الرحيم محمود الشَّاعر الشهيد، موقع “الساسة بوست”، (24-1-2016)، سبق ذكره.
7- مصدر سبق ذكره.
8- مصدر سبق ذكره.
9- مصدر سبق ذكره.