ربما آن الأوان لوضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بمفاعيل طوفان الأقصى، على المستوى الفلسطيني، وهو محور استحقاق ما بعد انتهاء الحرب .حيث يترتب عليه إعادة تعيين المهمات والأدوار لكافة القوى السياسية ،ولعل “السلطة الفلسطينية” هي الخاسر الأكبر في المرحلة المقبلة ،حيث لم تستطع التماهي بين سياسة الدور، والوظيفة ،والواجب السياسي، المفترض على الأقل، انطلاقاً من مصالحها ذاتها بالحد الأدنى.
.
فالكثير من القوى قد انخرطت في هذه المعركة الكبرى،لأن الطوفان بنتائجه، لن يعصم أحداً مهما كان ،وهي حقيقة أدركها العدو قبل الصديق ،وبدأ منذ الشهر الأول بالبحث عما يسمى اليوم التالي ،وأطلق سيناريوهات متعددة ،لشكل هذا اليوم متجاهلاً بالمطلق “السلطة الفلسطينية”، ومتجاوزاً دورها السياسي، بل عمل الكيان على دفع السلطة إلى دائرة الهلاك السياسي، بحرق آخر أوراق انتمائها الى فلسطين، ولم تشفع للسلطة تساوقها مع مهمة الكيان الصهيوني، وإطلاق الخطابات والبيانات العدائية للمقاومة، و شيطنتها، وتحميلها المسؤولية عن العدوان الصهيوني.
وقد وصل الأمر ببعض رموز السلطة و قيادييها من الصف الأول حد التعهد بالمحاسبة، لكل من تضامن مع المقاومة وطوفان الاقصى.
وحتى نبتعد عن السرد في تلك المواقف والتصريحات المتوافرة في المواقع الالكترونية وعلى محركات البحث، فإننا نجد أنّ مهمة السلطة، تمثلت في النقاط العريضة التالية:
١- امتناع السلطة عن إدانة العدوان والإجرام الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية ،رغم أنّ القتل والتدمير وصل إلى عقر دار مقر السلطة في رام الله.
٢- لم تكتف السلطة بالصمت المعلن ،ولكنها ذهبت إلى حد تهديد كل المقاومين بالضفة من الالتحاق بالمعركة في غزة، وكأن عملية فصل شاملة سياسياً وجغرافياً ،قد عملت السلطة على تكريسها عبر إطلاق أجهزتها الأمنية في ملاحقة المناضلين.
٣- تسهيل الأمر لأجهزة العدو(الشاباك والشين بيت) وقوات المستعربين في التخفي بعباءة السلطة للوصول إلى المقاومين في المشافي وتصفيتهم.
٤- شن حملة اعتقالات واسعة تحت عنوان إعتقال احترازي لمنع خروج الضفة عن التاثير او السيطرة.
٥- فشل “السلطة الفلسطينية” في دعم طلب تقديم الكيان الصهيوني إلى محكمة الجنايات الدولية، وعدم دعم طلب جنوب إفريقيا لذلك، وكأنّ الأمر لا يعني فلسطين شيئاً،( الذي هي تمثله فرضا)، بل راهنت على فشل توصّل المحكمة إلى أية قرارات، وهي( السلطة ) المصابة بعمى حصانة الكيان الصهيوني دولياً، ولم تستوعب أنّ هذه الحصانة قد سقطت في 7 أكتوبر2023 .
٦- قطع كافة المساعدات المالية والمعنوية عن غزة وشعبها، حتى رواتب أسر الشهداء، إمعاناً وتساوقاً مع الحصار المميت، الذي فرضه محور العدوان الصهيوني.
٧- عدم التفكير في رفع أمر القتل والتدمير والتجويع والحصار حتى إلى مجلس الأمن الدولي، والتحرك الدبلوماسي عربياً ودولياً ،لتشكيل كتلة مساندة لفلسطين ،بغض النظر عما يمكن أن تقدمه هذه الكتلة من نجاح في إطار مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة.
٨- عدم التفكير في التوجه نحو منظمات حقوق الإنسان والمطالبة برفع الحصار، وفتح المعابر وإيصال الغذاء والدواء ،الذي تضمنه شرائع حقوق الإنسان الدولية ،علماً أنها (السلطه ) تمتلك كافة الاثباتات بخصوص تدمير المشافي والمجمّعات الطبية، التي يعود لها معظمها في غزة.
٩- عدم الدعوة إلى اجتماع عربي أو إسلامي لبحث العدوان، وهي عضو في كلا المنظمتين ،والأدهى والأمرّ أنها أخذت على عاتقها الدور الأكبر، في الانخراط بتشكيلات لإرسال قوات إلى غزة بمهمات قذرة، تم القبض عليها مجرد دخولها إلى غزة ،عبر معبر رفح ،وهي قوات بالمئات مرسلة بتسهيل صهيوني وعربي، أوامر مباشره من السلطة ومسؤول “المخابرات العامة الفلسطينية” فيها ماجد فرج، وقد بينت التحقيقات، أن مهمتها تتلخص في إحداث فتنة ، وضرب المقاومة من الظهر عبر مئات العناصر المدربين صهيونياً وامريكياً ،وتقديم المعلومات الاستخبارية للكيان الصهيوني، لضرب نقاط التأثير التي فشل العدو في معرفتها.
والمفارقة هنا أنّ السلطة استطاعت الإعداد وتنفيذ هذه المهمة ، والحصول على كافة التسهيلات من محور العدو، وتدعي فشلها وعدم قدرتها على دعم صمود الشعب الفلسطيني في غزة، وتوصيل ولو كسرة خبز أو حبة دواء.
وليس خافيا على أحد خشية السلطة من إتمام صفقة تبادل الأسرى الشاملة، كأحد نتاجات وقف العدوان، وهي صفقة ستشمل أسماء مناضلين تآمرت على اعتقالهم، وكان لها اليد الطولى فيه ، وهي أسماء تشكل خطراً وجودياً على السلطة ذاتها، وتحظى بإجماع شعبي ونضالي في صفوف الشعب الفلسطيني، وقد تشكل حال خروجها بديلا لمشروعها ودورها الأسلوي .
والواضح أنّ “السلطة الفلسطينية” تعيش مأزقاً مزدوجاً في واقعها:
المأزق الأول: اتهام العدو لها بأنها ضعيفة ولا تصلح للمرحلة القادمة، رغم كل ما قدمته في إطار دورها ومهمتها .
المأزق الثاني: فقدان رصيدها الشعبي والوطني بعد اصطفاف كل فصائل العمل الوطني إلى جانب المقاومة في غزة.
لقد فشلت “السلطة الفلسطينية” حتى في المناورة لتحسين وضعها السياسي، ولو من باب ذرّ الرّماد في العيون، وباتت تترنح في دائرة أكبر المتضررين، وأول الساقطين في نتائج معركة غزة.
وعليه يمكن فهم تسابق رموزها ،في التعهد بتقديم المزيد من الولاء للعدو الصهيوني، وكل من يحاول أن يقدم نفسه البديل المنتظر لرأس السلطة، العاجز حتى في الدفاع عن وجوده ودوره ومصالحه ،وهو يغرد وحيداً خارج السرب دون صوت يسمع.
إذاً فأزمة السلطة هي أزمة وجودية، وبأحسن الأحوال إعادة إنتاج شكل سلطوي بعيدا عن الفصائل ،تحت عنوان “التكنوقراط ” سيكون أيضاً الخاسر فيه رموز السلطة المندرجة أساساً في إطار فصائلي.
وبأحسن الأحوال فإنّ التفكير الصهيوني يذهب باتجاه يوم تالي، لا وجود فيه لمثل هذه السلطة و بمهمات وأدوار مختلفة، هذا إن نجح المشروع الصهيوني في غزة وفلسطين وهو ليس كذلك.
د. حسين موسى
كاتب وصحفي فلسطيني
مختص بالشؤون الفلسطينية و”الاسرائيلية”