“غزة بلا حرب”، و”سماءٌ تخلو من حاملات القنابل”، و”بيوتٌ وخيامٌ تأمن من القصف”، و”مدينةٌ تغشاها السكينة”، و”انتقالات بغير حواجز”، و”مآذن تعود لها صيحات التكبير”.. كانت هذه أمنيات تحوّلت -بفعل العدوان المجرم وطول أمد الحرب وخذلان ذوي القربى- إلى أوهامٍ في اعتقاد الكثيرين، لكنها اليوم صارت حقيقة -وإن لم يبدأ التنفيذ بعد-، فما هي إلا ساعات وتبدأ المدينة الجريحة في تضميد جراحها ولملمة شعثها وإطلاق دموعها الحبيسة من أحزان ما مضى، إلى رحابة الفرج والانتصار.
لم يكد الإعلان عن الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أُبرم مساء اليوم الأربعاء، يرى النور، حتى امتلأت شوارع غزة المنكوبة بالمبتهجين والمحتفلين بطيّ هذه الصفحة المؤلمة، هتافات وأهازيج وتراثيات فلسطينية تَغنَّى بها الغزيون بفرحةٍ جامعةٍ، كأنهم كانوا على موعدٍ مع عرضٍ فنيٍّ رفيع المستوى، وذلك رغم عفوية الاحتفالات وبساطتها، في مشهدٍ يستدعي من مُدوّني التاريخ ونُخبة المفكرين، إعادة صياغة مفهومي “النصر” و”الهزيمة”، وفق المعتقد الغزاوي الأبي العنيد.
ورسميًّا أعلن رئيس وزراء قطر وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مساء أمس الأربعاء، عن التوصّل لاتفاق وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل” في قطاع غزة بعد 15 شهرًا من حرب ارتكب فيها الاحتلال أعمال إبادة جماعية وآلاف المجازر، قوبلت بمقاومة شرسة حتى النفس الأخير، موضحًا أن العمل سيستمر لاستكمال الجوانب التنفيذية للاتفاق، تمهيدًا للبدء بتنفيذه اعتبارًا من يوم الأحد المقبل، مُشيرًا إلى أن الدول الثلاث (قطر والولايات المتحدة ومصر)، ستعمل معًا لضمان الالتزام ببنود الاتفاق وتنفيذه بشكل كامل.
فرحة رغم الجراح
وسط الأضواء الخافتة (بسبب انقطاع الكهرباء عن جُلّ مناطق القطاع)، وعلى ركام الأبنية المهدّمة (بفعل القصف الصهيوني المجرم)، وفوق أنقاض الذكريات المنقضية (بعد غياب أهلها بين شهداء ومفقودين ومُهجّرين وأسرى)، خرج أهل غزة في عُرسٍ دونه كلُّ الأعراس، وعيدٍ لم يبلغه أَحدُ الأهلّة، وفرحةٍ تتعثّر الكلمات في التعبير عنها، ليُعلنوا للدنيا بأسرها أن غزة باقية، وأن أهلها هم أهل الأرض الباقون، وأن العدوّ إلى حيث أتى، يجرّ أذيال الخيبة والعار.
وبينما لا يزال العدوان الصهيوني يُمعن في قتل المدنيين حتى بعد الإعلان عن توقيع الاتفاق؛ حيث شهدت ساعات الليل قصفًا عنيفًا أسفر عن عشرات الشهداء والجرحى، إلا أن غزة “العصيّة على الانكسار” لم تُبدِ جَزعًا يُسعد عدوّها ويُهديه نصرًا موهومًا، بل أصرّت على أن تكون ليلتها إعلانًا بأنها الأقوى بصمودها وثباتها والإثخان في عدوها -ولو بالهتاف الذي يصارع القصف في سمائها- موقنين بأن لهم الغلبة باعتزازهم بأرضهم ودحرهم لغزاتهم.
غزة التي لا تنكسر
هنالك.. حيث بيت حانون وجباليا ومشروع بيت لاهيا ومخيم النصيرات، تتجه أنظار النازحين والمهجرين في جنوب القطاع، يعُدّون الأيام الثلاثة بالأنفاس لا بالساعات والدقائق، تهفو نفوس من فَقدوا أحبابهم شهداء لكي يُلقوا باقات الورود على قبورهم، ويهمِسُون إليهم بما لم تسعه أوقات الوداع التي قطعتها قنابل العدو، بينما آخرون لا يعرفون لشهدائهم قبورًا ولا يدرون تحت أي ركام يمكن أن يعثروا عليهم، لكنّ ذلك رغم مأساويته المفجعة، يمثّل للعائدين نفحة من الروح؛ حيث يكفيهم جمع أشلاء شهدائهم تضميدًا للجرح، ليعاودوا إلى ثغورهم من جديد.
يُدرك الغزّاويون حقيقة معركتهم وما تتطلبه من ثمنٍ باهظٍ يحمل معه مزيدًا من الشهداء والجرحى والأسرى والنازحين، لكنهم يبدون الزهو بانتصارهم على عدوهم الذي لم يستطع أن يكسرهم بكل هذا الدعم اللامحدود من حلفائه الأمريكيين والغربيين، ولم يحقق أيًّا من أهدافه المعلنة، ولا خططه الشيطانية، فلا المقاومة انتهت، ولا أسراه تحرروا، ولا أقام واقعًا جديدًا وفق شروطه في القطاع، ولا نجح في تهجير أصحاب الأرض، بل أتاهم جاثيًا على ركبتيه -كما وعد أبو عبيدة- يطلب أسراه بصفقةٍ لم تنعقد إلا بموافقة المقاومة والشعب الصامد.
كذلك يُعبّر أهل غزة عن فرحتهم بعَويل اليمين الصهيوني المتطرف الذي يحكم كيان الاحتلال، والذي سعى بكل قوته إلى إبادة الفلسطينيين وحرق الأرض واحتلال القطاع، لكنه رغم ذلك انكسر أمام صمود أمهات قدّمن فلذات أكبادهن لصدارة مواجهة جنوده الغزاة، وانكسر أمام شيخٍ هرمٍ أبى أن يفارق أرضه إلا أن يقضي في باطنها شهيدًا، وانكسر أمام مقاومٍ لم يضع سلاحه (البدائي) رغم الجوع والحصار وفقدان الرفاق.. يُعبر أهل غزة عن فرحتهم أمام هذا الانكسار المُذل لمن توعّدهم بكل ويل وثبور، فلم يجنِ إلا عارًا وخزيًا يُمثّل مسمارًا في تابوت دولته اللقيطة.
إغاظة مجرمي الحرب
من قلب القطاع المسحوق بنيران الاحتلال تنطلق الزغاريد إغاظة لرأس حرب اليمين الصهيوني ووزير المالية ورئيس حزب “الصهيونية الدينية”، بتسلئيل سيموترتش الذي كان وقودًا خسيسًا لهذه الحرب وسعى بكل قوته لئلا تنطفئ نيرانها، وها هو اليوم يصرخ من أعماق قلبه في أول تصريحٍ له بعد إعلان الاتفاق: بأنه “اتفاق سيئ وخطير على الأمن القومي لإسرائيل”.
وفي بيان رسمي ألقاه الوزير المتطرف، أكد أن حزبه يعارض الاتفاق بشدة، مشيرًا إلى أن الصفقة “تقوض الإنجازات التي تحققت خلال الحرب، والتي دفع ثمنها أبطال هذا الشعب بأرواحهم، وستكلفنا دماءً كثيرة مستقبلًا”، على حد تعبيره، وهو ما أكدته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية تعقيبا على هذا الاتفاق؛ حيث قالت: “نتنياهو فشل سياسيًّا، وجيشه فشل عسكريًّا بعد 15 شهرًا من الحرب”.
مدينة الأبطال
“حط السيف قبال السيف.. احنا رجال محمد ضيف”، “تحية للقسام.. عز الدين”، بمثل هذه الهتافات أكد الغزيون المحتفلون اليوم بوقف إطلاق النار على تمسكهم بنهج المقاومة واعتزازهم بالقادة الأبطال الذين قدموا أروع الأمثلة في الفداء وبذل الروح، وعلى رأسهم القادة الشهداء: إسماعيل هنية ويحيى السنوار وصالح العاروري، وكذلك القائد الحالي لكتائب القسام (أبو خالد) محمد الضيف، معلنين بذلك أن قادتهم قطعة منهم، لا ينطلقون إلا من أهداف شعبهم، ولا يُعبّرون إلا عن إرادتهم، ولا يعيشون إلا لقضيتهم حتى يموتوا في سبيلها على طريق تحرير القدس والأقصى ودحر الاحتلال.
تبتهج غزة إذ أخرجت أبطالاً لم يغادروا الميدان منذ تمترسوا في ثغورهم، أبطالاً أذلوا العدو وأرغموا أنفه أن يأتيهم صاغرًا يطلب إخراجه من وحل مدينتهم التي فضحت سريرته وكشفت سوءة جيشه المأزوم وأعادت الآلاف منهم في توابيت بعد أن أتوا غزة بخيلائهم يظنونها لقمة سائغة، فإذ بجنودها يقنصون ضباطهم، ويشتبكون مع جنودهم، ويفجرون آلياتهم، ويستولون على طائرات استطلاعهم، ويفجرون العبوات الناسفة في قواتهم الراجلة، ودباباتهم المصفحة، وينصبون لهم الكمائن المحكمة التي لا تتركهم إلا صرعى أو مبتوري الأطراف أو الأعين.. يبتهج أهل غزة بأن هذه الطليعة المقاوِمة هي من ثمار غرسهم، وحصاد زرعهم، وقرة عيونهم، وحق لهم ذلك؛ حيث بمثلهم يكون العز والفخار.
وعلى مشارفها وأطراف مُدُنها.. ينتظر الصامدون من أهل غزة فرحتهم الكبرى؛ حيث يعود أسراهم المغيبون في سجون الاحتلال، والذين قضى بعضهم فيها شهورًا، وآخرون سنينًا، ثم ها هم على مشارف القدوم حاملين معهم شرف الاعتصام بحقهم في الأرض المسلوبة، وعزة مقاومتهم للاحتلال المغتصب، وفخر بذلهم الثمن من أعمارهم والبعد عن أهليهم، بينما تشتفي صدور الغزاويين بمشهاهدة عودة أسرى الاحتلال باكين من الذلة والمهانة؛ لا يحملون معهم إلا عار قتل النساء والأطفال، ولا يرفعون رايات النصر التي وعدهم بها نتنياهو؛ فحيثما يولون وجوههم شطر غزة، تنقلب إليهم أبصارهم وهي حسيرة، جرّاء ما اقترفوا من جرائم بحق هؤلاء المحتفلين الآن بزوالهم.
المركز الفلسطيني للإعلام