الكاتب: حمدان الضميري
خلال عقود من الزمن، بقيَت السردية الصهيونية مهيمنة ونادراً ما استطاع الخطاب والرواية الفلسطينية إحداث اختراقات نوعية متميّزة، أحداث السنتين الماضيتين وما شاهدناه من حرب إبادة والتجويع والعمل على خلق ظروف التهجير الجماعي لأبناء قطاع غزة، هذه المشاهد التي لم نرَ مثلها خلال هذا القرن، نعم كنا أمام مشروع صهيوني يسعى للتطهير العرقي بداية في غزة لينتقل بعد ذلك للضفة الغربية، هذا التطهير العرقي هو صلب المشروع الصهيوني منذ بدايته وحتى يومنا هذا، قام المشروع الصهيوني على أكبر كذبة في التاريخ وهي أنّ أرض فلسطين هي فارغة ولا سكان فيها وإنْ وجد القليل من العرب فهم مجرد قبائل متنقلة وأصولها من منطقة الجزيرة العربية، هذه المقولة الكاذبة استطاع الشعب الفلسطيني بنضاله عبر منذ بداية القرن العشرين تفنيدها وإسقاطها.
المشروع الصهيوني بوجود قوى سياسية صهيونية مهيمنة في الكيان من أمثال قوى الصهيونية الدينية، يعود من جديد ويحاول توفير شروط نجاحه، وما حرب الإبادة إلا وسيلة ضرورية لتحقيق ذلك، فالشعب الفلسطيني الذي جرّب نكبة عام 1948 وما جرى فيها من تهجير وتطهير عرقي طال ما يقرب من 800 ألف فلسطيني تحوّلوا إلى لاجئين في الدول المجاورة ومنهم من انتقل إلى مناطق الضفة وقطاع غزة وهذا يفسّر أنّ سبعين بالمئة من سكانه هم أحفاد المهجرين بالقوة أثناء أحداث تلك النكبة…
هذه التجربة القاسية لم يعد شعبنا الفلسطيني مستعداً لتكرارها مهما كانت الظروف وهذا ما يجهله العدو الصهيوني.
أمام مشاهد الدمار والابادة في قطاع غزة خلال سنتين وبشكل مستمر، رأينا كيف أنّ الملايين من الشعوب في العالم خرجت للشوارع وللساحات لتقول لا للإبادة ولا لسياسة التجويع ولا لتطبيق نهج التطهير العرقي على ملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، هذه الوقفة الإنسانية الأخلاقية أحدثت تغييراً كاملاً في مقاربة الأمور في منطقة يسودها النزاع من عشرات السنوات، انقلبت الصورة فالضحية هو الشعب الفلسطيني بينما الجلاد هو الكيان الصهيوني الذي يطلق عليه “إسرائيل”، هذا التغيير النوعي والتاريخي جعل من فلسطين عنواناً للموقف مع العدالة ومع الحرية، فلسطين أصبحت العنوان لتصحيح ضروري في منظومة العلاقات الدولية، فلسطين باختصار هي معركة الحرية والانعتاق من الاستبداد والهيمنة والاستعمار، الشباب في مدن أوروبا وأميركا يرون في وقوفهم الواسع مع فلسطين جزءاً من معركتهم للتغيير في بلادهم نحو نظام سياسي أكثر عدلاً وأكثر إنسانيةً، إنه التحوّل الذي لا يمكن العودة عنه، الكيان الصهيونى أصبح وباختصار شديد منبوذاً من الكثيرين في العالم، حتى أنّ فلسطين دخلت في المعارك الانتخابية في العديد من دول أوروبا .
أمام هذا الواقع الجديد، أرى أنّ معركة عزل ومحاصرة هذا الكيان هي في صلب معركتنا في المرحلة المقبلة، وهنا لا بدّ من الاستفادة من نظرة شعوب العالم الجديدة تجاه الكيان الصهيوني ككيان يمارس الإبادة والقتل والتدمير كطريق لعزله ومقاطعته عالمياً.
هذه المعركة مهمة ويجب أن تكون في صلب عمل وبرامج حركة التضامن العالمية مع فلسطين، لذلك اعتقد أنّ خطابنا في المرحلة المقبلة وفي ظلّ تحوّل كهذا غيّر المفاهيم والمقاربات، عليه أن يُبنى على أرضية ما تمّ تحقيقه عالمياً في السنتين الأخيرتين، وانطلاقاً من هذه الرؤية، استطيع القول إنّ هذا الخطاب يمكن بناءه على المرتكزات التالية:
أولاً: أن تكون محاسبة مجرمي الحرب الكبير والصغير، من رأس هرم الكيان حتى الجندي، هي معركة الكل ويجب أن تصبح مطلباً عالمياً لأنّ جريمة الإبادة بحق الشعب الفلسطيني هي جريمة بحق الإنسانية جمعاء، هذه مهمة أخلاقية وسياسية برسم المؤسّسات حقوقية كانت أو تضامنية، هي برسم عشرات الآلاف من النشطاء المنتشرين في مختلف القارات والدول، يجب محاسبة الكيان على جرائمه الإبادية بحق أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة .
ثانياً: مهمة عزل الكيان وعلى مختلف الأصعدة يجب أن تكون في تفكيرنا يومياً ليطرح كلّ واحد منا على نفسه هذا السؤال: ماذا أستطيع فعله لعزل الكيان الصهيوني، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وأكاديمياً وفنياً ورياضياً، وكذلك تصعيد معركة المقاطعة BDS له وتجريم بيع الأسلحة له أو السماح بمرورها من موانئ ومطارات الدول…
لدينا نموذج عرفته الإنسانية في القرن الماضي وهو نموذج عزل نظام التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية، هذا العزل بدأ ببطء من خلال منظمات المجتمع المدني وبعد مرور ما يقرب من عشرين عاماً من العمل المتواصل للحكومات وللأحزاب حتى تمّت مقاطعته عالمياً قبل نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي وتهاوى وسقط بلا رجعة، هذا نموذج من الممكن تطبيقه مع كيان الإبادة والتطهير العرقي الصهيوني.
ثالثاً إعطاء جواب لما يريده شعبنا عبر نضاله الوطني، المرحلة الماضية سادها الكثير الكثير من الضبابية وعدم الوضوح والتراجع السياسي المدمّر، نعم علينا كشعب يعيش مرحلة تحرر وطني، معركة الحرية بمواجهة الاحتلال، معركة مواجهة نظام الأبارتايد والتطهير العرقي، مطلوب منا كشعب ومطلوب من القوى السياسية الفلسطينية مجتمعة الجواب على سؤال ماذا نريد وماذا نطلب من العالم، الجواب سياسي بامتياز وهو مرتبط بحقوقنا الوطنية، وتحديد آليات استرداد هذه الحقوق، المنظومة القانونيّة والميثاقية للأمم المتحدة تعطي شعبنا حق المقاومة لهدف استرداد حقوقه الوطنية والغير قابلة للتصرف.
وعلى ضوء ما جرى من تحوّلات مهمة جداً، تمثل العناوين التي تشكل مكونات معركتنا المقبلة في عالم أصبح ينظر لنا كشعب له حقوق وفي المقدمة منها حقه بتقرير المصير…
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
