الكاتب: د. محمد خليل الموسى
مقدمة
تبنى مجلس الأمن بتاريخ 17/11/2025 القرار رقم 2803 (2025) بشأن غزة بأغلبية (13) صوتا مقابل امتناع كل من روسيا والصين عن التصويت. يتضمن هذا القرار “خطة شاملة لإنهاء الصراع في غزة”. وقد صاغت الولايات المتحدة مشروعه الأساسي ضمن ما يعرف بـخطة ترامب ذات العشرين نقطة، التي تشكل إطارًا مرحليًا لإعادة الإعمار وترتيبات الأمن في غزة.
يشمل المضمون الرئيس للقرار إنشاء مجلس سلام دولي (Board of Peace) ليكون هيئة انتقالية تتولى إدارة غزة بشكل مؤقت، إضافة إلى تفويض قوة استقرار دولية (ISF) بمهمة تأمين القطاع، ونزع السلاح، والحفاظ على الأمن، مع منحها صلاحيات واسعة في استخدام “جميع التدابير الضرورية” لتنفيذ التفويض الممنوح لها. كما ينص القرار على تمويل إعادة الإعمار عبر مؤسسات دولية مثل البنك الدولي، وعلى إنشاء لجنة تنفيذ مدنية فلسطينية تخضع لرقابة وإشراف الهيئات الدولية لضمان توافقها مع متطلبات وشروط المرحلة الانتقالية.
ينطوي القرار المذكور على مقاربة جديدة وخطيرة لإدارة الصراع في غزة؛ إذ يسعى إلى فرض الاستقرار الأمني والإداري من خلال آليات دولية مؤقتة. ورغم أن القرار يستمد شرعيته الشكلية من سلطة مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، باعتباره الوضع في غزة “تهديدًا للسلم في المنطقة”، فإنه يثير جملة من الإشكاليات القانونية العميقة تتعلق بمجملها بقواعد آمرة في القانون الدولي.
الواقع أن أهمية تحليل هذا القرار من الناحية القانونية تتأتى من حقيقة أنه لا يقتصرعلى ترتيبات أمنية مؤقتة، بل يحمل في طياته إمكانية إعادة تشكيل بنية السيادة الفلسطينية في غزة وفرض أنماط جديدة من الحوكمة الدولية. كما يفتح الباب أمام نقاش واسع حول حق تقرير المصير، ومبدأ السيادة الوطنية الفلسطينية، وآليات المساءلة القانونية في ظل ما قد يغدو شكلًا من أشكال الوصاية الدولية المؤقتة؛ وربما الدائمة مستقبلا، بما ينطوي عليه ذلك من آثار قانونية وسياسية عميقة على مستقبل غزة والقضية الفلسطينية. وقد يجد القارئ في بعض مواطن هذا المقال تكرارا لبعض الأحكام القانونية، وهو أمر مفهوم في سياق المنهجية التحليلية النقدية المتبعة فيه، حيث أنه يتعامل مع القرار منهجيا وفق نموذج تفسيري نقدي سياقي شامل ومتكامل بغية تفكيكه والكشف عن أبعاده، دلالاته، مآلات تطبيقه وإشكالاته القانونية وملامح عدم مشروعيته الموضوعية رغم أنه يتصف بالشرعية من الناحية الشكلية على النحو الذي سنوضحه تاليا.
الإخلال الجوهري بمبدأ حق تقرير المصير والسيادة
يمثل القرارسابقة قانونية خطيرة لأنه يُعلِّق إعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو قاعدة آمرة في القانون الدولي (Jus Cogens)،على شروط إدارية وسياسية خارجية، فضفاضة وحمالة أوجه تأويلات مختلفة. فالقرار يرهن إمكانية “بلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية” بإنجاز السلطة الفلسطينية لبرنامج إصلاحها على “نحو مُرضٍ” (الفقرة 3) وفقًا لمقترحات غير نابعة من إرادة الشعب الفلسطيني ولا تعبر عن إرادته؛ وإن كانت قد حظيت بترحيب السلطة الفلسطينية. هذا التقييد يتعارض مع جوهر المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على وجوب بناء وتطوير العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب.
ينطوي القرار، من ناحية أخرى، على فرض الوصاية الدولية على قطاع غزة من خلال إنشاء مجلس السلام كإدارة انتقالية دولية ذات شخصية قانونية دولية وسلطات تنفيذية واسعة (الفقرة 4). فما يتضمنه نص الفقرة المذكورة من القراريشكل أسس ومقومات فرض صورة لوصاية إدارية على غزة ليس بمقدورنا الوقوف على مداها ومضمونها الآن وقبل أن يباشر المجلس مهامه الفعلية على قطاع غزة. لكن الثابت هنا أن المجلس سيحل محل الشعب الفلسطيني وحكومته في إدارة شؤون القطاع، وأن الإدارة المدنية للقطاع ستكون في يد جهة دولية غير منتخبة، وغير خاضعة للمساءلة أمام الشعب الفلسطيني وغير نابعة عنه، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى توافق هذا الهيكل الإداري مع مسؤولية القوة القائمة بالاحتلال (إن وجدت) أو مع حق الشعب في حكم ذاته وتقرير مصيره.
التوسع غير المسبوق في تفويض قوة فرض السلام وإشكالية المساءلة
تمنح الفقرة ( 7 ) من القرار قوة الاستقرار الدولية المؤقتة تفويضًا قسريًا واسعًا جدًا يتضمن استعمال القوة إلى أقصى مدى تراه ضروريا للقيام بمهامها ووظائفها. وفي الحقيقة، إن قوة الاستقرار الدولية التي أنشأها القرار والتفويض الممنوح لها يخرج قانونا وممارسة عن النماذج المألوفة أو التقليدية لحفظ السلام. فتفويض تلك القوة “ضمان نزع السلاح في القطاع، بما يشمل تدمير البُنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية ومنع إعادة بنائها، وكذلك الإخراج الدائم للأسلحة من الخدمة من قبل الجماعات المسلحة من غير الدول” (الفقرة 7)، يحوّل القوة من حامية للسلام إلى قوة لمكافحة الإرهاب أو قوة فرض سلام ذات تفويض هجومي واسع.
عند مناقشة التفويض الواسع الممنوح لقوة الاستقرار الدولية من خلال عبارة “باستخدام “جميع التدابير الضرورية” الواردة في القرار والتي درج المجلس منذ العام 1991 على استعمالها في تفويضه لاستخدام القوة، يجدر التوضيح أن هذا التعبير في قرارات مجلس الأمن لا يمنح حرية تصرف مطلقة باستخدام القوة المسلحة، بل يخضع لتفسيرات محددة وفق القانون الدولي ولممارسات مجلس الأمن السابقة. فالقرارات المتخذة بموجب الفصل السابع تمنح القوة المنشأة بموجبها صلاحيات قسرية، لكن ينبغي على تلك القوة أن تمارسها وفقا للقانون الدولي لاستخدام القوة، وبالذات وفق مبدئي الضرورة والتناسب، مع الالتزام بالقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد أوضحت محكمة العدل الدولية، من خلال عدد من اجتهاداتها القضائية، أن التفويض الصادر عن مجلس الأمن لا يتيح تعطيل أو تجاوز الالتزامات الأساسية في القانون الدولي تجاه المدنيين، مثل حماية السكان المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. بناءً عليه، فإن التفويض الواسع الممنوح لقوة الاستقرار الدولية سيواجه صعوبات قانونية إذا جرى استخدام القوة بموجبه ضد أهداف قد تكون مدنية أو ذات طبيعة مزدوجة، ما يزيد من المخاطر القانونية ويضعف المشروعية الدولية للقرار.
لقد بات واضحا من التحليل السابق أن القرار2803 ينشئ هيكلاً إداريًا يتمثل بمجلس السلام وأمنيًا يتمثل بقوة الاستقرار الدولية ،يفتقر إلى آليات مساءلة واضحة سواء أمام الأمم المتحدة أو غيرها، خاصة وأن القرار يأذن لكل من المجلس والقوة بالدخول في ترتيبات تتعلق بالحصانات والامتيازات لأفراد قوة الاستقرار ومجلس السلام (الفقرة 6/أ). مما يخلق فجوة قانونية تتعلق بالمساءلة؛ فالحصانات الممنوحة من شأنها أن تعرقل بصورة كبيرة أي إجراءات قضائية وطنية أو دولية ضد الأفراد العاملين في المجلس وقوة الاستقرار الدولية في حال وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان أو للقانون الإنساني الدولي من جانبهم. كما أن تمويل المانحين لا يخضع للمساءلة كذلك؛ فالاعتماد على “المساهمات الطوعية” لتمويل مجلس السلام (الفقرة 5 و 7/ب) يعني أن الدول المانحة، وليس الأمم المتحدة أو هيئة محايدة، هي من سيوجه عملية إعادة الإعمار، مما يوهن الرقابة الديمقراطية والشفافية ويسمح بـتسييس عملية إعادة الإعمار.
المشكلة القانونية المتعلقة بالشخصية القانونية الدولية لمجلس السلام
يثير منح القرار 2803 لمجلس السلام صفة “إدارة انتقالية ذات شخصية قانونية دولية” (الفقرة 3) عدداً من الإشكاليات القانونية المعقدة، خاصة وأن هذه الهيئة تخضع لسيطرة مجموعة محددة من الدول الأعضاء وليس للأمم المتحدة بشكل كامل. وكما ذكرنا، تمثل هذه الهيئة خروجًا عن النموذج التقليدي الذي دأبت الأمم المتحدة على اتباعه في إدارة الأقاليم الانتقالية. من الناحية العملية، سيعمل مجلس السلام بدرجة كبيرة باستقلالية تنفيذية، رغم أن القرار يشترط عليه تقديم تقارير دورية لمجلس الأمن كل ستة أشهر حول التقدم المحرز في تطبيق بنوده. لا شك أن هذا الشرط يجعل المجلس خاضعًا من الناحية الشكلية لمجلس الأمن، لكنه يتمتع بقدر من الاستقلال العملي في إدارة شؤون غزة، بما قد يؤدي إلى ما يمكن وصفه بثلاثية السلطة القانونية في القطاع التي تضم كلا من السلطة الفلسطينية كجهة ممثلة للشرعية القانونية والتاريخية، والكيان الصهيوني كقوة احتلال مستمرة عبر ما نص عليه القرار من “محيط أمني” وسيطرة على المعابر والمجالين الجوي والبحري ومجلس السلام كإدارة انتقالية دولية ذات قدر من الاستقلالية التشغيلية.
هذا التداخل في السلطات القانونية قد يؤدي إلى تحديات قانونية تعتري تطبيق القوانين الوطنية والدولية، ويزيد من صعوبة تحديد المسؤوليات القانونية في حال وقوع انتهاكات، ما يهدد الاستقرار والأمن القانوني في قطاع غزة.
الافتراضات القانونية الضمنية المؤسِّسَة للقرار
من خلال قراءة نص القرار وتحليله، يتبين لنا أن من صاغ القرار يتبنى عدة افتراضات قانونية وسياسية ضمنية تؤسس لشرعيته من وجهة نظره ، وهي :
أ – افتراض الفشل السيادي؛ إذ يفترض القرار ضمنيًا أن السلطة الفلسطينية غير قادرة أو غير راغبة في ممارسة سلطتها بشكل فعّال أو في ضمان الأمن في قطاع غزة. ويُستخدم هذا الافتراض، من وجهة نظر بعض من يتبناه، كمبرر قانوني للتدخل الإجباري لمجلس الأمن، استنادًا إلى المادة 2(7) من ميثاق الأمم المتحدة، بما يسمح له – في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين – بممارسة سلطاته المنصوص عليها في الفصل السابع، واتخاذ تدابير مؤقتة لتعطيل أو سحب بعض الوظائف السيادية الإدارية والأمنية بغرض استعادة الاستقرار الإقليمي.
ب – افتراض الطبيعة الإرهابية للتهديد القائم المتمثل في الوضع بقطاع غزة؛ حيث يفترض القرار أن الوضع في قطاع غزة ينطوي على تهديد إرهابي، إذ يشدد على ضرورة نزع سلاح “الجماعات المسلحة من غير الدول” ويدعو إلى تدمير “البُنى التحتية العسكرية والإرهابية” (الفقرة 7)، وهو ما يعني – وفق هذا المنظورالمفترض – أن التهديد يشكل عملًا إرهابيًا يستدعي تدخلاً دوليًا إجباريًا تحت مظلة الفصل السابع. ويؤدي هذا التوصيف الواسع لتهديد السلم والأمن الدوليين إلى تبرير منح قوة الاستقرار الدولية المؤقتة تفويضًا هجوميًا واسعًا، تُصبح بموجبه الغاية الفعلية المتوخاة من القرار إعادة تشكيل طبيعة الحكم في قطاع غزة من خلال نزع سلاح الفاعلين من غير الدول ( فصائل المقاومة الفلسطينية).
وبذلك يتبنى من صاغ القرار وأيده وسانده وصوّت لصالحه رؤية تختزل التهديد في سلاح المقاومة الفلسطينية وسكان غزة الواقعين تحت الاحتلال والإبادة، بدلًا من النظر إلى المصدر الحقيقي لتهديد السلم والأمن الدوليين، المتمثل في العدوانية البنيوية للكيان الصهيوني وجرائمه وانتهاكاته الجسيمة للقانون الدولي، وفي مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة.
ج – افتراض مرونة وسيولة الحق في تقرير المصير؛ فمن الملاحظ أن القرار يفترض ا ضمنيًا أن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ليس حقًا مطلقًا ولا قاعدة آمرة في القانون الدولي، كما ينص القانون الدولي، بل هدفًا يمكن أن يكون مشروطًا أو مؤجلًا أو مرتبطًا بالاستقرار الأمني والامتثال لبرنامج إصلاح خارجي. هذا الافتراض غير محدد المعالم ولا يرتبط بفترة زمنية واضحة، ويتعارض مع المبادئ القانونية الدولية الراسخة، بما في ذلك الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية الصادرة في عامي 2004 و2024، ومع ممارسة الأمم المتحدة ذات الصلة. ويُعطي القرار الأولوية لمعايير الأمن المتعلقة بالاحتلال على حساب السيادة والمعايير السياسية للشعب الفلسطيني، بما يُضعف من فعالية الحق في تقرير المصير ويعرقل إعماله القانوني.
الآثار القانونية لاستمرار السيطرة الإسرائيلية على غزة من خلال فكرة المحيط الأمني
وفقا لنص الفقرة (7) من القرار، فإن الوجود الإسرائيلي الأمني سيظل قائما ومستمرا من خلال “محيط أمني”. من الناحية القانونية، سيؤدي هذا الاستثناء إلى تناقضات قانونية عويصة وعميقة الغور. فمن جهة أولى، إن استمرار وجود المحيط الأمني، المقترن بالسيطرة غير المنقوصة على المعابر الحدودية والمجال الجوي والبحري لغزة، يعني أن إسرائيل تحتفظ بسيطرة فعلية على الإقليم، أي أن قطاع غزة سيبقى تحت الاحتلال الإسرائيلي. ولذلك، سيكون استمرار تطبيق القانون الإنساني الدولي الخاص بالاحتلال (اتفاقية جنيف الرابعة) مسوغا قانونا، وتبقى إسرائيل مُلزمة بضمان النظام العام وسلامة السكان.
وما يثير قلقي البالغ من الناحية القانونية في القرار 2803 هو تجاهله الكامل للالتزامات القانونية المترتبة على الاحتلال بموجب القانون الإنساني الدولي. فاستمرار المحيط الأمني الإسرائيلي والسيطرة الإسرائيلية غير المنقوصة على المعابر والمجال الجوي والبحري لقطاع غزة يعني عمليًا أن إسرائيل ستواصل ممارسة السيطرة الفعلية على الإقليم، ما يبقي قطاع غزة خاضعًا للاحتلال وفقًا لتعريف المادة 42 من اتفاقية لاهاي لعام 1907، التي تنص على أن “الأراضي تعتبر محتلة إذا وجدت فعليًا تحت سلطة الجيش المعادي، ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن ممارسة هذه السلطة فيها فعليًا”.
ويترتب على ذلك أن كيان الاحتلال ملزم وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة بحماية السكان المدنيين وضمان النظام العام، وهو ما لا يبرره أي تفويض صادر عن مجلس الأمن، مهما كانت دوافعه، إذ أن الاحتلال لا يُلغى بقرار دولي، ولا يمكن للقوة الدولية أو مجلس السلام أن يحل محل المسؤولية القانونية لإسرائيل تجاه السكان الفلسطينيين أو يحللها منها. ومن ثم، فإن فرض ترتيبات إدارية وأمنية دولية دون الإقرار بالاحتلال المستمر يخلق فراغًا قانونيًا ومسؤوليات مزدوجة، قد يؤدي إلى تضارب بين تطبيق قواعد القانون الإنساني الدولي وقواعد حقوق الإنسان الدولية من جهة، وبين تفويض مجلس الأمن والقوة الدولية من جهة أخرى، مما يوهن المشروعية القانونية للقرار ويزيد من تأثيره غير المشروع على حقوق الشعب الفلسطيني.
كما يمكن تعزيز التحليل القانوني للقرار 2803 بالإشارة إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية المتعلق بالجدار الفاصل الصادر عام 2004 ، الذي أكد على أن التدابير الاحتلالية التي تؤثر على حقوق الشعب الفلسطيني، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية، تخضع لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وأن الالتزامات القانونية الواقعة على عاتق الاحتلال لا يمكن تجاوزها بموجب قرارات سياسية لمجلس الأمن. هذا الرأي الاستشاري يسمح لنا بالقول أن أي ترتيبات إدارية أو أمنية دولية في غزة، حتى وإن كانت تحت سلطة مجلس الأمن، لا تلغي المسؤوليات القانونية لإسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال، ولا يمكن تقييد حق تقرير المصير الفلسطيني أو الحقوق الأساسية للسكان المدنيين بموجب برامج إصلاح أو ترتيبات مؤقتة.
ومن جهة أخرى، سيؤدي هذا الاستثناء من الناحية العملية إلى خضوع القوة الدولية لقيود أمنية تخدم مصالح إسرائيل فحسب، مما يقوّض حيادها ومصداقيتها وفقاً للقانون الدولي، ويهدد مشروعيتها بعيون الفلسطينيين. علاوة على أن هذا التداخل يسيخلق “منطقة رمادية للمساءلة” بين إسرائيل كقوة احتلال في حدود المحيط الأمني، وبين قوة الاستقرار التي تتمتع بتفويض لحماية المدنيين، مما يزيد من صعوبة تحديد الطرف المسؤول قانونياً في حال وقوع انتهاكات أو أضرار.
هل ثمة مجال لتشبيه الواقع القانوني الجديد الذي ينشئه القرار بنظام الانتداب ؟
من الناحية القانونية الشكلية المحضة، لا مجال لتشبيه الهيكل الإداري والأمني الجديد الذي ينشئه القرار (مجلس السلام و قوة الاستقرار) بنظام الانتداب الذي أسسته عصبة الأمم، لأن الأساس القانوني للقرار 2803 هو الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين. كما أنه يقوم على إطا متعدد الأطراف، ولو شكلا، وليس على سيطرة دولة واحدة.
لكن القرار يتشابه جوهريًا، ومن حيث المضمون والمآلات مع الانتداب لجهة الوصاية المؤقتة على السيادة على النحو الآتي :
كلاهما يفترض ضمنا فشلًا في الحوكمة والقدرة على الحكم ؛ فيفرض وصاية إدارية مشروطة ويرهن استعادة السيادة بـتنفيذ برنامج إصلاحي على نحو مُرضٍ.
كلاهما ينطوي على تفويض خارجي (من مجلس الأمنفي حالة غزة ومن مجلس العصبة في حالة الانتداب) لإدارة دولية غير فلسطينية، تهدف إلى إدارة الإقليم إلى أن “تتوافر الشروط” المزعومة لتقرير المصير.
يتضمن القرار 2803 إنشاء آليات تمويلية تمنح الجهات المانحة الدولية (المشابهة للقوى المنتدبة) سيطرة على الموارد الاقتصادية لإعادة الإعمار.
قصارى القول أن القرار 2803، رغم أنه لا يوصف بـالانتداب بالمعنى التاريخي وبحسب الشكل القانوني، إلا أنه في الواقع وعملا ينشئ نظام وصاية أمنية وإدارية دولية مؤقتة ومُعلَّقة، ويُقوض جوهر السيادة المؤقتة على قطاع غزة لصالح إدارة خارجية مشروطة، مما يجعله مشابها قانونيًا ( من هيث الجوهر والمآل) للانتداب.
السياق السياسي والمعرفي الذي مهّد لصدور القرار 2803
تُظهر التجربة السياسية الممتدة منذ مدريد وأوسلو وحتى القرار 2803 أن المنظومة العربية والفلسطينية ما تزال تعيد إنتاج الهشاشة البنيوية ذاتها التي قادت مرارًا إلى نتائج مُحبِطة ومكلفة. ويمكن تتبّع جذور هذا النمط في ثلاثة مستويات مترابطةتتمثل ب التموضع السياسي الخاطئ، والاعتماد على ضامنين غير محايدين وضعف المعرفة القانونية والمؤسسية. يضاف إليها غياب الاستراتيجية وتغلّب الاعتبارات التكتيكية. هذه المستويات الأسباب البنيوية هي التي سمحت بتمرير القرار 2803 بالشكل الذي صدر عليه، وستجعل من مقاومته أو مواجهته أمرًا بالغ الصعوبة.
أ – قبول الفصائل الفلسطينية بخطة ترامب ونتائج هذا القبول
لا خلاف في أن قبول فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها الفصيل الأكبر حماس، بجوانب أساسية من خطة ترامب أفضى إلى إحداث تحول جوهري في بنية الموقف الفلسطيني. فعلى الرغم من رفض الخطة على المستوى الإعلاني والإعلامي، إلا أن التعاطي البراغماتي من قبل المقاومة الفلسطينية مع بعض عناصرها، خاصة في ما يتعلق بإعادة الإعمار، والتسهيلات الإنسانية، وشروط الدعم المالي، خلق حالة من التطبيع السياسي مع المنطق العام للخطة وافتراضاتها الضمنية التي تتشابة تماما مع الافتراضات الضمنية للقرار 2803 المشار إليها أعلاه. وقد ذهب ذلك بكثيرين، بمن فيهم شخصيات نافذة في قوى المقاومية الفلسطينية أو داعمة لها، إلى احتفاء البعض بعبقرية رد المقاومة على الخطة وبما أطلقوا عليه ” نهج نعم ولكن” متناسين أو غير مدركين إمكانية فرض الخطة قانونيا بعد تحرير الأسرى من خلال مجلس الأمن. على أي حال، أدى ذلك الموقف إلى ترسيخ تصور دولي بأن الفلسطينيين مستعدون لقبول ترتيبات انتقالية تنتقص من السيادة مقابل ضمانات مالية أو تحسينات إنسانية. ومن هنا أصبح تمرير فكرة “مجلس السلام” باعتباره إدارة انتقالية واسعة الصلاحيات على غزة أمرًا مقبولاً أو على الأقل لن يواجه بمقاومة أو بمواجهة فعالة.
ب – الرهان على ضامنين ودول يرتبطون استراتيجياً بالولايات المتحدة وداعمين لإسرائيل
اعتمدت بعض الأطراف الوازنة ضمن المقاومة الفلسطينية بما فيها حماس، على ضامنين إقليميين يرتبطون تاريخيًا واستراتيجيًا بالولايات المتحدة وبإسرائيل نفسها. وقد ظهر هذا الرهان بشكل واضح خلال الحرب، حيث توقّع بعض الفاعلين الفلسطينيين أن تعمل هذه الدول كضامن محايد أو كوسيط قادر على تعديل ميزان القوى. غير أن هذا الاعتماد جعل الفلسطينيين مقيدين سياسيًا أمام الإرادة الدولية التي صاغت القرار 2803. فالرهان على أطراف دعمت إسرائيل سياسيًا وعسكريًا خلال الحرب جعل القدرة الفلسطينية على الاعتراض أو فرض شروط سيادية أضعف بكثير مما تتطلبه اللحظة التاريخية. وهكذا أصبح القبول بالترتيبات الانتقالية التي يقودها المحور الدولي ذاته جزءًا من نتيجة حتمية للبنية السياسية التي اختارت تلك الإطراف الوقوع في حضنها طوعا، وليس خيارًا سياديًا حرًا.
ج – ضعف التأهيل القانوني الدولي والمعرفي لدى الكثير من النخب العربية والفلسطينية
يكشف التاريخ القانوني المعاصرعن فجوة عميقة بين مستوى التأهيل القانوني لدى النخب العربية والفلسطينية، وبين متطلبات خوض صراع قانوني متقدم ضد القوى الدولية. فالقانون الدولي ليس مجرد شعارات أو مبادئ عامة، بل منظومة تقنية تحتاج إلى مدارس تفكير، وبنية تحليلية، وقدرة على إنتاج استراتيجيات قانونية متماسكة. وفي معظم الحالات، يتم التعامل مع القرارات الدولية بوصفها نصوصًا تقنية محايدة، بينما هي في الواقع أدوات ذات حمولة سياسية بامتياز ينبغي قراءتها وتفسيرها بطريقة قانونية نقدية وفق منهج متعدد المجالات والأبعاد. فضلا عن أن شطرا كبيرا من النخب العربية، بمن فيهم قانونيون، لا يعترفون بالقانون الدولي لأسباب كثيرة في مقدمتها أنه لا يعرفون آليات اشتغاله ولا منطقه ولا ميكانيزماته. كما أن من يختص به في غالبية الجدول العربية، ينظرون إليه نظة تقنية ظاهرية نصوصية صماء على أحسن تقدير. وينبغي أن نعترف في هذا السياق أن اتقان اللغات التي تصاغ فيها نصوص هذا القانون وصكوكه والتفقه بها شرط أساسي لبناء منهج دقيق وصحيح للتعامل معها؛ وهذا ما لم يعد متوافرا في الغالب مع اتساع المختصين به ممن حصلوا على تأهيلهم المعرفي في جامعات عربية. فأسباب الظاهرة معقدة ومترابطة، وهي تضم باقة من الأسباب البنيوية لا مقام لتناولها وتحليلها هنا.
وقد أدى هذا الضعف القانوني إلى ثلاث نتائج مركزية:
1- غياب القدرة على صياغة موقف قانوني مضاد للطعن في مشروعية مضمون ومآلات المسودة الأمريكية للقرار قبل إقرارها ولبيان عدم مشروعية إنشاء إدارة انتقالية ذات سلطة شبه سيادية.
2 – الوقوع في فخ الخطاب الإنساني – الإغاثي الذي يُستخدم دوليًا لتبرير نزع السلطة عن الشعوب بحجة حماية المدنيين، والذي تحرص عليه الدول الغربية الكولونيالية منذ الإرهاصات الأولى للقانون الدولي الحديث. وهو ما حرص عليه الغرب وكيان الاحتلال خلال حرب الإبادة على غزة، وبالفعل نحجوا في تحقيق مبتغاهم، حتى بالنسبة لفصائل المقاومة الفلسطينية.
3 – تكرار قبول حلول مؤقتة تتحول إلى ترتيبات دائمة، كما حدث في اتفاقات أوسلو، والفصل الجغرافي بين غزة والضفة والآن مع مجلس السلام وقوة الاستقرار الدولية في قطاع غزة.
الواقع أننا لا نهدف من وراء التركيز على هذا الضعف إلى الاتهام أو التجريح أو الانتقاص، بل غايتنا أن نشخص بدقة معضلة بنيوية لا نرغب في الحديث عنها ودائما ما نتجنب الخوض في معالجتها، وهي افتقار الفاعلين العرب والفلسطينيين إلى جهاز قانوني متخصص رفيع المستوى متسلح بأعلى المنهجيات والمقاربات النقدية لتحليل القانون الدولي ودراسته مثل مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي TWAIL، جهاز قادر على إنتاج خطاب ومصطلح قانوني متكافئ مع تعقيد القرارات الدولية لقد شاهدت بأم عيني في مناسبات كثيرة استعانة من يفاخرون بأنهم داعمون للمقاومة وللحق الفلسطيني إما بمختصين متواضعي المستوى إلى درجة كبيرة ، أو بمختصين غربيين أو غربويي الهوى والمنهج والتفكير أو بقانونيين من غير المختصين بتاتا بالقانون الدولي ولا يعرفون منه سوى قراءة بعض نصوصه التعاهدية. وفي جميع تلك الحالات ، النتيجة واحدة ضعف بنيوي جسيم يفضي إلى مزالق وأخطاء قانونية كارثية.
د – تكرار النمط التاريخي ذاته المتمثل بغياب الاستراتيجية وهيمنة التكتيك
يتسم القرار السياسي العربي – الفلسطيني بنمط ثابت يُعاد إنتاجه في كل دورة من دورات الصراع؛ يتمثل بغياب استراتيجية طويلة المدى، وهيمنة قرارات قصيرة المدى تستجيب لضغوط اللحظة. هذا النمط قاد، مرارًا وتكرارًا، إلى نتائج سلبية مشابهة أبرزها:
قبول مبادرات دولية تنتقص من الحقوق السيادية تحت ضغط الحاجة الإنسانية.
الارتهان لوعود دولية هدفها إدارة الصراع لا حله.
عدم القدرة على استثمار الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية لخلق مسارات قانونية مضادة.
تشكيل بيئة تفاوضية غير متوازنة تجعل الفلسطينيين يدخلون في كل مفصل تاريخي من مفاصل القضية الفلسطينية وهم أضعف من أن يفرضوا سرديتهم القانونية والسياسية.
لا يمكن قبول أن هذا النمط التاريخي مجرد صدفة أو قدر، بل هو نتاج اختلال هيكلي في العلاقة بين العرب والفلسطينيين من جهة، والقوى الدولية الفاعلة من جهة أخرى. وهكذا يصبح القرار 2803 استمرارًا طبيعيًا لمسار طويل من الترتيبات التي يُعاد فرضها على المنطقة نتيجة الضعف الذاتي، وربما كذلك نتيجة العمل لصالح القوى الغربية الاستعمارية والتحالف معها وليس صحيحا أنها تفرض علينا بسبب ضغوط خارجية محضة، فالضغوط لا تلقى صدى إلا في بيئة قابلة للاستعمار أو تعمل لصالحه.
لم يكن القرار 2803 نتاج قوة القانون ولا ثمرة هزيمة ميدانية لقوى المقاومة في غزة ، بل نتاج هشاشة السياق السياسي والمعرفي العربي – الفلسطيني، وضعف الحضور القانوني العربي والفلسطيني سواء من جانب الحكومات العربية أو فصائل المقاومة الفلسطينية، أمام إرادة القوى الكبرى. يتعين علينا جميعا أن نعترف بتلك الهشاشة وبمسبباتها وأسبابها الكامنة فينا، لأن إصلاح المسار يبدأ أولاً بفهم أسباب الانزلاق إليه.
نقد القرار وفقا لمقاربات العالم الثالث للقانون الدولي (TWAIL )
بحسب مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي TWAIL ، يعد القرار 2803 استمرارا وتجسيدا لآليات الهيمنة والاستعمار المقنّع، حيث يمثل صكا قانونيا ينزع فعليًا السيادة الفلسطينية على قطاع غزة تحت ستار “إعادة الإعمار” و”فرض السلام”. فضلا عن أنه قرار اختلاف المراكز القانونية تاريخيا المرتبط بالهيمنة وبعدم التكافؤ بيم المركز والأطراف، خاصة وأنه يتبنى مفهوما استعماريا للأمن مبنيا على على نزع سلاح المقاومة الفلسطينية قسرا بينما يسمح باستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي عبر فكرة “المحيط الأمني”، وتكريس السيطرة على الموارد عبر المانحين الدوليين، مما يجعل مستقبل غزة رهنا لأجندات ومشاريع خارجية.
ولعل امتناع كل من روسيا والصين عن التصويت على القرار ( بعد أن طرحت روسيا مسودة قرار مضادة للمسودة الأمريكية التي جر تبنيها ضمن القرار 2803 وادارت لها السلطة الفلسطينية ودول عربية وإسلامية ظهرا ولم تعبأ بها) ينطوبي على رمزية كبيرة في هذا المجال، فهي بمثابة إشارة احتجاج قوية على المضامين غير المقبولة قانونا في القرار وعلى مرجعياته والافتراضات الضمنية المؤسِّسة له، وفي مقدمتها فرض خطة ترامب كمشروع سياسي أحادي يتضمن تدخلا ذا طابع استعماري وكولونيالي عبر آليات وصاية (مجلس السلام). لا شك أن امتناع هاتين الدولتين من بين الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس هو بمثابة رسالة مفادها أن القرار يفتقر إلى الإجماع الدولي الكامل على آليات تنفيذه. ومع ذلك، فإن هذا الامتناع عن التصويت لا يغير من رؤية مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي لمجلس الأمن وأنه أداة بيد المركز لأغراض كولونيالية ولإدامة شرعنة هيمنة المركز على الأطراف.
خلاصة بشأن عدم المشروعية الموضوعية للقرار 2803 وما ينبغي عمله
يمكن القول إن القرار 2803 يستند إلى شرعية شكلية مستمدة من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين، لكنه يفتقر للمشروعية الموضوعية لجهة المضمون، والافتراضات الضمنية، والآليات التي ينشئها. فالقرار يوسع صلاحيات القوة الدولية بصورة تتجاوز حدود الضرورة، ويقوم على تفسير غير صحيح لمصدر التهديد للسلم والأمن، حيث يتجاهل الاحتلال الإسرائيلي المستمر ويستهدف نزع سلاح مقاومة شعبية فلسطينية ترزح منذ أمد طويل تحت الاحتلال.
من الناحية القانونية، يتعارض القرار مع القواعد الآمرة في القانون الدولي، وأبرزها:
حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؛ حيث يشترط القرارلإعماله تنفيذ برنامج إصلاحي خارجي، مما يقوض جوهره القانوني.
السيادة الوطنية لتي يتعامل معها القرار كمفهوم قابل للمساومة.
واجبات الاحتلال الإسرائيلي بموجب القانون الإنساني الدولي، التي لا تلغى بقرار سياسي لمجلس الأمن، رغم التفويض الواسع الممنوح لقوة الاستقرار الدولية.
ومن منظور مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي (TWAIL)، يعكس القرار استمرار هيمنة المركز على الأطراف الأضعف، ويجسّد نموذجًا جديدًا من الإدارة الانتقالية المشروطة، التي تجعل مستقبل غزة رهينًا للمعايير والسياسات الدولية، بعيدًا عن إرادة الشعب الفلسطيني.
نستنتج مما سبق القول أإن القرار 2803، بالرغم من اعتماده بصورة شكلية وفق الفصل السابع، يفتقر للمشروعية الجوهرية فيما يتعلق بمضمونه وافتراضاته الضمنية ومآلاته. إذ تتجاوز التدابير المقررة فيه حدود الضرورة الأمنية، وتستند إلى تفسير واسع غير صحيح لمصدر التهديد الفعلي للسلم والأمن، المتمثل بالكيان الصهيوني وليس بالمقاومة الفلسطينية، في حين وظف مجلس الأمن سلطاته لتحقيق أهداف سياسية كولونيالية تتجاوز مقاصد الميثاق المتمثلة في حفظ السلم وحماية حقوق الشعوب.
أما فيما يتعلق بمواجهة القرار 2803 ؛ فحتى وإن صدر بموجب الفصل السابع، فثمة حاجة لتبني استراتيجية قانونية متعددة الأبعاد تتركز في المقام الأول على نقاط الضعف وعدم المشروعية الموضوعية للقرار، وهي المتعلقة بالسيادة وحق تقرير المصير ومساءلة القوة الدولية. ويمكن في هذا السياق اقتراح التدابير الآتية :
1 – التأكيد بشكل دؤوب ومستمر على عدم مشروعية القرار في جميع المؤسسات والهيئات الدولية المختلفة، ذات الصلة، والسعي لاستصدار رأي استشاري من محكمة العدل الدولية من خلال طلب توجهه الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى المحكمة لاستصدار رأي استشاري حول مشروعية القرار 2803 من حيث تعارضه مع القواعد الآمرة في القانون الدولي، وتحديداً الحق في تقرير المصير.
يمكن أن يركز السؤال على ما إذا كان مجلس الأمن، حتى استنادا لسلطته الممنوحة له بمقتضى الفصل السابع، يملك الحق في تعليق أو تقييد قاعدة آمرة من خلال فرض شروط سياسية (برنامج الإصلاح) على ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير. وكذلك حول مدى توافق القرار الصادر عن جهاز سياسي هو مجلس الأمن مع ما جاء في الرأي الاستشاري الصادر المحكمة بصفتها الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة في عام 2024 بشأن التبعات والآثار القانونية الناجمة عن ممارسات وسياسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة وأنه سبق للجمعية العامة أن منحت كيان الاحتلال، عقب صدور الرأي الاستشاري المذكور، مهلة لتنفيذه والعمل بمقتضاه والانسحاب من الأراضي المحتلة لكنه لم يقم بذلك
2 – العمل على استصدار توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة، من خلال قيام الدول العربية والإسلامية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني ( وربما تكون من بينها الدول العربية والإسلامية الثمانية التي أصدرت بيانا يؤيد مسودة القرارالأمريكية والسلطة الفلسطينية التي رحبت بالمسودة المذكورة) والدول الأعضاء الأخرى في الجمعية العامة الداعمة لتقرير المصير الفلسطيني، بالطلب الجمعية العامة التصويت على توصية تتضمن التأكيدعلى حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة في القانون الدولي من قبيل الحق في تقرير المصير، ووحدة الأراضي الفلسطينية وأنها كل لا يتجزأ، وعلى السيادة الفلسطينية على تلك الأراضي وعدم جواز الاستيلاء عليها بالقوة، وعلى الحق في مقاومة الاحتلال وعلى وجوب احترام ما جاء في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في عام 2024 المذكور أعلاه. مع التأكيد على التزام الأمم المتحدة الكامل ، وبالذات الجمعية العامة ومجلس الأمن، الكامل بالحق غير المشروط في تقرير المصير. هذا يعزز الشرعية السياسية المضادة للقرار.
ربما يثور تساؤل بذهن البعض لماذا لا تصدر الجمعية العامة توصية ترفض فيها ما جاء بالقرار 2803 مباشرة. هذا السؤال مشروع ومنطقي؟
ينبغي الإشارة هنا إلى أن المادة (12) من ميثاق الأمم المتحدة لا تجيز للجمعية العامة إصدار توصيات في مسائل يباشر مجلس الأمن صلاحياته إزاءها ولا تملك إلا مناقشتها فحسب. لذلك فإن الحل الواجب اتباعه قانونا هنا في ضوء استحالة اصدار الجمعية العامة توصيات خاصة بالقرار 2803، هو العمل على استصدار توصيات من الجمعية العامة تتناول حقوق الشعب الفلسطيني والتزامات الجمعية العامة ومجلس الأمن بصورة عامة لكنها ستساهم حتما لجهة مضمونها بالكشف عن عدم مشروعية القرار 2803.
3 – ينبغي على منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية و حركات المقاومة الفلسطينية جميعها والمؤسسات والهيئات المدنية للشعب الفلسطيني أينما كانت أن تستمر فيإصدار أوراق موقف وبيانات قانونية وسياسية ترفض من خلالها بصورة قاطعة وواعية وصادقة قبول الإدارة الانتقالية لمجلس السلام وأنها بمثابة وصاية غير مشروعة على قطاع غزة ، وترفض بشدة ربط استعادة السيطرة على غزة أو الحق في تقرير المصير بـ برنامج إصلاح مُملى خارجيًا . فمن شأن هذه المواقف الدؤوبة والمستمرة أن تبطل قانونا الافتراض الضمني بـالرضا المشروط و الفشل السيادي اللذين يتأسس عليهما القرار 2803.
4 – يجب أن تعمل السلطة الفلسطينية فوراً علىتشكيل لجنة فلسطينية تكنوقراطية موحدة تحظى بأوسع توافق وطني فلسطيني ممكن، وإعلانها كـسلطة مدنية فلسطينية مؤقتة، والدعوة لتمويلها ودعمها مباشرة من الدول المانحة، مما يزيل أهمية وجود مجلس السلام الدولي ويُضعف مبرره القانوني كبديل عن إدارة فلسطينية وطنية.
5 – ينبغي المطالبة بآلية واضحة تتعلق بالتنازل عن حصانة أفراد قوة الاستقرار الدولية ومجلس السلام في حال ارتكابهم جرائم دولية و/ أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدولي. ويتوجب كذلك الإقرار بإمكانية إقامة دعاوى مدنية و / أو جنائية أمام محاكم وطنية استنادا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية ضد أفراد القوة إذا كانت الحصانة غير مطلقة أو لم يتم التنازل عنها.
6 – يجب على البعثات الدائمة والمراقبين الدوليين توثيق جميع مظاهر وأوجه السيطرة الفعلية الإسرائيلية على قطاع غزة من خلال المحيط الأمني والسيطرة على المعابر، وإرسال تقارير دورية لمجلس الأمن والجمعية العامة تؤكد استمرار مسؤولية إسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال بموجب القانون الإنساني الدولي، حتى بعد نشر قوة الاستقرار الدولية. تكمن أهمية هذا الإجراء من الناحية القانونية في أنه يثبت زيف وعدم صحة الافتراض القانوني بأن القرار2803 قد أنهى الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة.
7 – يجب على الدول المانحة ، وبخاصة تلك الرافضة لفكرة الوصاية على قطاع غزة، أن توجه مساعداتها مباشرة إلى الكيانات الفلسطينية الشرعية للإغاثة وإعادة الإعمار، وأن تربط أية مساهمات طوعية لمجلس السلام أو لقوة الاستقرار الدولية بآليات واضحة تضمن الشفافية والمساءلة وعدم استخدام الأموال لفرض شروط سياسية تتعارض مع حقوق الشعب الفلسطيني
استنادًا إلى التحليل القانوني المفصل أعلاه، يتضح أن نقاط الضعف الجوهرية التي تعتري القرار 2803، المتمثلة على وجه الخصوص بتعليق حق تقرير المصيروعرقلته، والتوسع المفرط في صلاحيات قوة الاستقرار الدولية، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي من خلال فكرة المحيط الأمني، تشكل أساسًا قانونيًا وسياسيًا واضحًا لتحديد أولويات التدابير والآليات المقترحة لمواجهة القرار وضمان حماية الحقوق الفلسطينية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
