الكاتبة: إسلام شحدة العالول
تتجه أنظار العالم إلى غزة، حيث لا تُدار الحرب بالقصف وحده، بل عبر الحصار والتجويع وإدارة الموت البطيء. فما يجري في القطاع يتجاوز كونه تصعيدا عسكريا عابرا، ليصبح سياسة ممنهجة لإبادة صامتة، تُغطّى بمسميات دبلوماسية زائفة مثل “الدفاع عن النفس” و”ردود الفعل”.
وبينما تتبدل الخطابات، تبقى الحقيقة واحدة: غزة تموت ببطء تحت حصار خانق بلا رقابة ولا محاسبة.
في هذا المشهد السريالي، يقف بنيامين نتنياهو مهندسا بارعا لتقويض أي أمل بالنجاة. إنه لا يسعى لإنهاء الحرب، بل لإدارة الموت. يحيك خيوط المؤامرة ببرود يُحسد عليه؛ يقبض على الاتفاق ليحصره في مرحلته الأولى، ثم يفرغه من مضمونه، ويرسّخ قواعد اشتباك تمنحه سيفا مُصْلَتا يقطر دما متى شاء: حرية القصف، والاغتيال، والتوغّل.
لقد فُرض عليه الاتفاق، وهو الآن يعمل على إفشاله خطوة بخطوة، بالابتزاز والتصعيد واختلاق الذرائع. فمنذ اللحظة الأولى، يحتفظ بسلة من العراقيل؛ تارة عبر ملفات الجثامين، وتارة عبر وقائع غامضة تُلفق في رفح، كاشفا زيف ادعائه الحرصَ على جنوده. هدفه لم يكن استعادتهم، بل إفشال كل شيء.
كيف لجسد مثخن بالجراح أن يتحرك؟ الطرقات، التي كانت يوما شرايين تضخ الحياة في المدينة، صارت اليوم عروقا مسدودة بالردم واليأس
الأمر يتجاوز الرصاصة والصاروخ؛ إنه الخنق الممنهج. يواصل نتنياهو إطباق الحصار، يغلق المعابر، ويحوّل معبر رفح إلى جدار أصم. يمنع العائدين، ويقيّد المساعدات، ليبقي القطاع في حالة اختناق إنساني واقتصادي.
وهنا يبلغ العبث ذروته. الاحتلال يُغرق سوق غزة بالكماليات؛ تجد الشوكولاتة والنسكافيه في مشهد سرياليّ يفضح النوايا. لكن في المقابل، يختفي الدواء والغذاء الأساسي وكل مقومات الحياة. تبحث عن البيض والأجبان واللحوم والدواجن، فلا تجدها إلا بأسعار خيالية. المستشفيات والصيدليات تقف عاجزة، خالية من أبسط مستلزمات الحياة: لا شاشَ لجرح نازف، ولا مضادَّ حيويا لعدوى قاتلة.
كما لا وجود لأي مواد بناء، ولا لأي وسيلة من وسائل الطاقة البديلة. إنها رسالة واضحة: الموت البطيء مسموح، بل ومطلوب.
في تلك المناطق التي سحقها الدمار، حيث يمتزج ركام البيوت بركام الأرواح، لا يبحث الناس عن طعام فاخر، بل عن جرعة ماء نظيف. الماء، هذا الحق البديهي، تحوّل إلى حلم بعيد المنال. لا ماء للشرب يروي ظمأ الأطفال، ولا ماء للاستخدام يغسل غبار الموت عن الأجساد المتعبة.
وكيف لجسد مثخن بالجراح أن يتحرك؟ الطرقات، التي كانت يوما شرايين تضخ الحياة في المدينة، صارت اليوم عروقا مسدودة بالردم واليأس. كل شارع مقطوع هو فصل جديد في عزلة الأحياء، وسجن إضافي يُطبق على الناجين.
انكشف المخطط في فضيحة مدوّية. في جنوب أفريقيا، هبطت طائرة مستأجرة متهالكة، وعلى متنها 153 فلسطينيا بلا أوراق. تم احتجازهم 12 ساعة كاملة بلا طعام أو شراب
لكن الموت لا يأتي من العطش والركام فقط، بل يأتي من الجهل والمرض. لقد توقّف التعليم. المدارس، مصانع الأحلام، إما دُمّرت أو تحولت إلى مراكز إيواء تضج بالألم. أما المستشفيات، فأغلبها أكوام من الحجارة، وما نجا منها يقف عاجزا، يراقب الأرواح وهي تتسرّب عجزا لا مرضا.
وفوق كل هذا، يأتي الخنق الاقتصادي ليجهز على ما تبقى. لا سيولة نقدية، والعملة التي بين أيدي الناس قد اهترأت. أوراق بالية ممزقة، ترفضها البنوك المغلقة، ويرفضها التجار. لقد نجحت المصيبة في أن تجعلك فقيرا وأنت تحمل المال في جيبك؛ تملك النقود، لكنها لا تشتري لك شيئا.
وحتى الخيام، هذا الستر الهش، أصبحت ترفا. فالمتوفر منها قليل، وما نُصب منها قد اهترأ، تاركا العائلات بلا سقف. الأسواق «متعطشة» لأبسط الأساسيات، فلم تعد مائدة الغزيّ تعرف طعم اللحوم أو البيض. لقد أصبحنا معزولين عن العالم، وعن بعضنا البعض، حتى أجهزتنا الإلكترونية التي تعطلت لا تجد من يصلحها.
هنا يتجلى المقصود واضحا كالشمس: إبقاء غزة مدمَّرة، وتحويلها إلى بيئة طاردة للإنسان، وقوة مركزية تدفع أهلها دفعا نحو الهجرة القسرية.
وقد انكشف المخطط في فضيحة مدوّية. في جنوب أفريقيا، هبطت طائرة مستأجرة متهالكة، وعلى متنها 153 فلسطينيا بلا أوراق. تم احتجازهم 12 ساعة كاملة بلا طعام أو شراب. التحقيقات كشفت أن منظمة «المجد» المشبوهة، والتابعة لإسرائيل، هي من رتبت الرحلة. لقد رافقتهم السلطات الإسرائيلية من غزة إلى مطار رامون، ثم ألقت بهم إلى المجهول.
هؤلاء لم يغادروا، بل كما قال رئيس جنوب أفريقيا: «لقد تم طردهم».
إنهم يدركون أن قطاعا مدمّرا بلا تعليم ولا صحة ولا بنية تحتية، ويحتاج إلى سنوات من الإعمار المستحيل بفعل الحصار، سيغدو قوة طاردة لسكانه
خرج الكيان ببيان خبيث، واصفا جريمته بأنها «سياسة نبيلة تسمح لمن يرغب بالخروج أن يغادر». أي نبالة هذه في خداع العائلات، ونقلها دون ختم على جوازاتها، حتى يُقطع طريق العودة نهائيا؟
إنه التطهير العرقي الناعم، الهادئ، المستمر. يغلقون المعبر رسميا، ليجعلوا من يفكر بالهجرة مستعدا لبيع نفسه مقابل الخروج، كما يديرون شبكات التهجير هذه كجزء من سياستهم.
يعتمد الاحتلال مبدأ التدرّج وجسّ النبض؛ إذا نجحت خطوة، طبّقوا التي تليها. وهدفهم واحد: سحقنا.
إنهم يدركون أن قطاعا مدمّرا بلا تعليم ولا صحة ولا بنية تحتية، ويحتاج إلى سنوات من الإعمار المستحيل بفعل الحصار، سيغدو قوة طاردة لسكانه.
لكنهم، في كل مرة، يخطئون في الحساب. قد تُهدم المدن، ويُسحق الحجر، وتُغلق الطرقات، وتهترئ العملة. لكن شيئا واحدا لا يُهدم، ولا يهترئ، ولا يموت: إنها الإرادة. إرادة الحياة المتجذّرة في هذه الأرض، والتي ستنبثق من جديد، كما ينبثق الزرع من بين الركام.
