ماكشفه الفيروس حول النظامين
برانكو ميلانوفيتش*
12 أيار/ مايو 2020
فورين أفيرز الأمريكية
ترجمة: علاء الدين عنبتاوي
عندما أطلق الإتحاد السوفيتي القمر الصناعي العالمي الأول (سبوتنيك) في أكتوبر عام ١٩٥٧ أدركت الولايات المتحدة أن الإتحاد السوفيتي ليس خصماً أيدلوجيا لدودا فحسب وإنما منافس عسكري وتكنولوجي أيضاً.
أظهر (سبوتنيك) تفوق الإتحاد السوفيتي على الولايات المتحدة في المجال التكنولوجي البالغ الأهمية وتفرعاته الهائلة بقدرته على التواصل وشن الحروب، لم يغير (سبوتنيك) طريقة نظر الولايات المتحدة للإتحاد السوفيتي وإنما غير طريقة النظر لأولوياتها.
وكرد على الإنجاز السوفيتي استثمرت الولايات المتحدة في تكنولوجيا الفضاء وسعت لفهم الإيدلوجية الشيوعية بشكل أفضل (وتقويضها) ، فطورت الجامعات برامج تعليمها للغة الروسية ، واخيرا وبعد ثلاثة عقود فإن نسخة أمريكية محدثة من برنامج (سبوتنيك) وهي (مبادرة الدفاع الاستراتيجي) كانت كفيلا للمساهمة في إنهيار الإتحاد السوفيتي وانتهاء الشيوعية -وكان هذا نوع من لحظة سبوتنيك المضادة.
قد تكون جائحة فيروس (كوفيد-١٩) هي لحظة (سبوتنيك) الغير متوقعة للصين فبإستجابتها السريعة والفعالة للجائحة، وماكشف عن الإعتماد العالمي على منتجاتها الطبية والحاجة العالمية الملحة لتعافي الصين اقتصادياً بلغت الصين أوج تطورها الناجح في عيون النخب الحزبية الأمريكية والجمهور العالمي، فالنظرة إلى الصين في الولايات المتحدة لن تكون بعد هذه الأزمة كما كانت قبلها، ولهذا السبب من بين أسباب أخرى فإن ردود الفعل المتباينة تجاه الوباء سلط الضوء على تنافس النظم السياسية بين الدولتين.
فالقوتين العالميتين تنافسوا فيما مضى للتأثير العالمي ولذلك فإن نجاح أي نظام مقارنة بالآخر لن يكون أمراً سهلاً .
وكما كتبت سابقاً لهذه المجلة مصوراً النظرة الأمريكية والصينية للسوق كرأسمال ليبرالي سياسي وقد أظهر كلا النظامين نقاط القوة والضعف في هذا الإختبار القاسي.
كان مصدر قوة الصين في إدارة هذه الأزمة هي في تركيز قوتها وقدرتها على التحكم بالموارد الهائلة، وبسبب هيكلية نظامها التسلسلي استطاعت الصين بشكل استثنائي فرض إجراءات سريعة صارمة لتحويل مصادر الطاقات والموارد (بما في ذلك الطاقات البشرية) إلى المناطق التي كانت في أمس الحاجة إليها، ولولا هذه الإجراءات لما استطاعت الصين تحقيق هذه النتائج الرائعة: فشنغهاي المدينة التي يقطنها ٢٤ مليون شخص لم يصل عدد وفياتها بسبب الفيروس التاجي ١٠٠ شخص ،وبعد ثلاثة شهور من فرض الحجر الصحي على مدينة أصبحت خالية من أي إصابات جديدة.
الصين بلغت أوج تطورها الناجح في عيون النخب الحزبية الأمريكية والجمهور العالمي
ولكن النظام السياسي المركزي لديه نقاط ضعف ، فكما وصف الإقتصادي الصيني (إكسو شانغانغ) الاقتصاد الصيني كنظام إستبدادي اقليمي لامركزي تتمتع فيه سلطات المقاطعات بصلاحيات واسعة طالما تستخدمها لتحقيق الأهداف المرسومة من قبل الحكومة المركزية، وتشمل أولويات الحكومة المركزية زيادة النمو الإقتصادي إلى أقصى حد وجذب المستثمرين الأجانب ومكافحة التلوث البيئي في بعض الأحيان وقد منح النظام السلطات المحلية و الإقليمية استخدام كافة الوسائل التي يرونها مناسبة لتحقيق هذه الغايات. وتكافىء السلطات المركزية الإدارات المحلية معتمدين على تقييمهم لإداراتها وهذا مايدفع الإدارات المحلية إخفاء أي تطورات غير مرغوب بها.
لم تكن استجابة سلطات مقاطعة هوبي لأولى للحالات المصابة بفيروس (كوفيد-١٩) شيئاً شاذاً انما هو جزء لايتجزأ من نظام شمولي محلي إقليمي لامركزي، فالسلطات المحلية كانت مترددة و- منكرة- أيضأ لأنها لاتريد أن تخلق انطباعا بضعف السيطرة فنقلوا معلومات قليلة إلى الحكومة المركزية حول الإصابات الغامضة والتي كانت البذور الأولى لزراعة بذور الوباء.
ولكن عندما تفاقمت المشكلة وصارت واضحة للعيان تم السماح للحقيقة بأن تنتشر وعند تلك اللحظة استجابت حكومة الصين المركزية بفعالية واحترافية محاولة العودة إلى وضعها السابق.
تعامل النظام السياسي الأمريكي مع الفيروس بطريقة مغايرة تماماً لطريقة تعامل الصين ،فالسلطات المركزية -الحكومة الفيدرالية الأمريكية ووكالاتها- قدمت صورة مشوشة ،غير متقنة، مليئة بالفوضى . عند اللحظات الأولى للوباء لم يكن للحكومة أي دور يذكر وبالكاد موجودة ولكن الفيدرالية الأمريكية ألقت هذه المهام على كاهل الولايات التي سعت جاهدة لسد النقص في الحكومة المركزية.
استجابت حكومة الصين المركزية بفعالية واحترافية محاولة العودة إلى وضعها السابق
عندما غابت الحكومة الفيدرالية واستنفذت طاقاتها بمقابلات صحفية لا جدوى لها، بذلت الولايات قصارى جهدها في إدارة الأزمة وبذلك اظهروا قوة ومرونة الفيدرالية والتي – بعكس (الشمولية القائمة على لامركزية الأقاليم)- تمنح سلطاتها للولايات حتى لو تعارض ذلك مع أولويات الحكومة والجدول الزمني الذي أقرته الحكومة لتنفيذها.
ويبقى أن نرى فيما إذا كانت مرونة الفيدرالية الأمريكية وحدها قادرة على التغلب على الوباء – أو فيما إذا كان التناغم بين طرق وأولويات حكومات الولايات المختلفة سيواصل استمراره –طبيعة هكذا عدوى في دولة متكاملة كالولايات المتحدة سيقوض أفضل الجهود المبذولة إذا جاء بعدها قرارات سيئة وسلوكيات غير مسؤولة.
سيتغاضى الكثير من الناس عن منشأ الأزمة وسيقارنون تعامل الصين بإيجابية مقارنة مع التعامل الأمريكي
يتابع العالم باهتمام النظامين-الرأسمال الليبرالي السياسي، الشمولي اللامركزي والفيدرالي- يتعاملون مع الأزمة ذاتها. كثير من الناس سيتجاهلون منشأ الأزمة وسيقارنون بإيجابية إجراءات الصين تجاه الأزمة مقارنة مع التعامل الأمريكي، ومما يثير الغيرة والحسد أن الصين بعد كل ذلك تعود إلى سابق عهدها، فالشركات تعود للعمل ومتاجر البيع بالتجزئة تفتح أبوابها وزبائن قهوة سبارتاكوس مسترخين وهم يحتسون القهوة.
حتى الآن مازال الرأسمال السياسي منتصر، وكما ثبت أن لحظة سبوتنيك السوفيتية كانت لحظة عابرة كذلك الحال سيكون بالنسبة للصين، إلا إذا اختار الطرف الآخر الاستفادة من مزايا كالمرونة في إتخاذ القرار ومساءلة الحكومات المحلية والشفافية. وتظهر فائدة الأخيرة على سبيل المثال في أن الأمريكيين لديهم عدة إحصائيات حول عدد الوفيات في حين أن الصين أعلنت عن إحصائية واحدة مشكوك بمصداقيتها. هذه السمات الأمريكية تضع موضع المقارنة اختلافات النظام الداخلي للدولتين أي فيما إذا تم منح السلطات المحلية على مستوى الدولة من قبل الحكومة المركزية أو فيما إذا كانت تنتمي بشكل طبيعي إلى الوحدات الإدارية من الدرجة الثانية. وبالمقابل فإن هذا الإختلاف ينشأ من تحديد سمات الرأسمالية السياسية مقابل الرأسمالية الليبرالية. السباق بين الرأسمالين الولايات المتحدة و الصين تم الإشارة إليه قبل الأزمة ولكنه الآن يظهر للعلن.
*برانكو ميلانوفيتش: باحث في مركز ستون للتفاوت الاجتماعي و الإقتصادي التابع لمركز كوني للدراسات وبروفيسور في كلية الاقتصاد في لندن