في الوقت الذي كانت فيه فيديوهات اجتماعات القيادة الفلسطينية تثير أحزان الناس في كل مكان في هذا العالم، كانت القدس تنتفض، متحدّية الاحتلال ومصمِّمة على أن تستردّ ساحة باب العامود.
شباب وشابات رائعون لم يتراجعوا رغم وقوع أكثر من 750 إصابة بين صفوفهم، واعتقال أكثر من مائة منهم، شباب احتضنتهم قلوب البشر، كما يغمر ضوء الحرية ويحتضن ملامحهم العذبة وقاماتهم السامقة، ما يدفع الإنسان لأن يصرخ: يا إلهي، أيّ مسافة هذه التي تفصل صورة الشعب المضيئة عن طاولة اجتماعات قيادته!
ما حدث في أسبوع واحد لا غير، أعاد رسم الفروق الشاسعة للمرة المليون، بين صورة قيادة رام الله وصورة باب العامود.
لم تكن القيادة تشبه ناسها، ويبدو أن ذلك لن يكون، في زمن لا يشتهي الشعب الفلسطيني فيه شيئًا كما يشتهي حريته ووجود قيادة تشبهه وتشبه وطنه.
بدمهم وقوة أرواحهم يكتب شباب وشابات القدس على حائط مدينتهم كتاب الحياة الحقيقية، في الوقت الذي يُشرّش فيه الخراب مخترقًا أرجل كراسي قاعات اجتماعات رام الله وأرجل من يجلسون عليها، وهم يصرّون على أنهم لن يتنازلوا.. إلى الأبد، ما داموا استلموا السلطة، معيدين الشعار الأشهر لأولئك الذين لا يقبلون ببقاء أقل من الأبد!
يتضاعف هذا الخراب، وتعرّيه انتفاضة القدس من مشروعيته، كاشفة أكثر هذا الهبوط المرعب في مستوى حواراته والشتائم التي تتطاير لتنال من شعوب ودول قريبة وبعيدة.
لا أظن أن أحدًا منّا يتذكّر، بسهولة أو بصعوبةٍ، خواءً من هذا النوع سيطر على جدول اجتماعات قيادةٍ في العالم، ترزح تحت الاحتلال، في وقت يصر شعبها أن يكون فوق هذا الاحتلال.
امنحوا شعبكم فرصته لينتصر، هنا وهناك، ولينتصر له العالم، بدل أن تحوّلوا فلسطين إلى مسرحية «مدرسة الشاتمين المتشاتمين». لا تسرقوا نضاله بهذا الإصرار على أن تظلوا بكراسيكم فوق كتفيه إلى الأبد.
يُفجع المرء حين يرى القيادة الفلسطينية تحوّل نفسها إلى شكل من أشكال الدِّين، المساس بها كفر، وإن كان لقوة أن تغيِّرها بأحسن منها، فهي قوة الموت إن استطاع!
محزن أن نرى كم هي مستوْطَنة بفكرة الخلود.
محزن أن يضطر المرء لأن يتساءل عن أدوار أخرى لأسماء محترمة لا يجوز لها أن تصمت، أو تمارس نصف صمت، أو ربع صمت، أو تلعن، أو تبكي في جلساتها الخاصة وضعًا مزريًا، طاحنًا شعبها وأحلامه، وتبقى قابلة بهذا المستمر البائد.
لا يملك المرء إلا أن يتساءل، وحُمّى الانتخابات تشتعل وتذوي، وكل الدلائل تشير إلى أنها ستنطفئ: أي الأخطار أكثر دمارًا لفلسطين اليوم من أن يتواصل حكم هذه القيادة سنوات أخرى، والتي يبدو أنها ستفعل الكثير ليكون هذا. وأي أخطار تلك التي تدحرجت بما فيه الكفاية، وتتدحرج، ساحقة كل ما في طريقها، مع استفحال الانقسام الذي دفع الشعب الفلسطيني ثمنه غاليًا، أو التئام هذا الانقسام، إذا التأم، بصمغ الهشاشة، إذا استمر الوضع القائم كما هو عليه. القدس وشباب القدس وشاباتها صوّتوا في انتخاباتهم، وكان الصندوق ساحة باب العامود، وانتصروا، وينتصرون، ففي أي صندوق انتخابات ستضع القيادة أوراقها. فمن يشترط أن تجري الانتخابات في القدس، عليه أن ينهض الآن، كشباب القدس، ويعمل من أجلها، لا أن يمنح الصهاينة وقتًا إضافيًّا، للمرة الألف، كي يُمْعِنوا في استباحتها أكثر، وفي ابتلاعها.
ثمة رعب حقيقي أن يتواصل هذا الوضع كما هو، وأن يبقى الشعب الفلسطيني بأكمله يصيح تحت رُكَبِ هذه القيادة: لا أستطيع أن أتنفس، لا أستطيع أن أتنفس.
هذا الوضع بحاجة لانتفاضة لا تقل عن انتفاضة شباب القدس، وهناك من يحترقون بتهاوي هذا الوضع المستمر منذ زمن طويل، ممن يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم ويقولوا: كفى.
لم يعد هذا الشعب قادرًا على أن يُمضي سنوات أخرى مُحاصَرًا بهمجيةٍ صهيونية تتضاعف وحشيتها وعنصريّتها وكلبنتها يومًا بعد يوم، وقيادة لم تقدم شيئًا واحدًا لشعبها منذ أن حفرت لأحلام هذا الشعب قبرًا وأصرَّت، وتصرُّ، على أن تحشرها فيه، وكتبت على شاهدته «اتفاق أوسلو».
في هذا الزمن التي تتبرع فيه القيادة بصمتها، أو تكتفي ببيانات احتجاجها وكأنها مجرد مجموعة متعاطفة مع ما يحدث للشعب الفلسطيني، مقيمة في أقصى بقاع الأرض، هناك صهاينة يعملون على أن يسرقوا كل ذرّة تراب فلسطينية، في السهول وأعالي الجبال، وهم يبنون قلاع خرافاتهم، ويسرقون كل بيت وشارع في القدس وسواها.
لا تمنحوا الصهاينة الفرصة بالبقاء أكثر في مكاتبكم، انتفاضة القدس، التي قال فيها شباب القدس وشاباته:
«جَمَعْنا الدَّمْ من أولْ جُرحْ فينا،
وزفِّينا شهيد الأرضْ
وحنِّيْنا شهيدتنا،
وقلْنا للصغير اكبرْ
وأعْلَنّا انتفاضتنا»
هؤلاء يريدون قيادة تشبههم، تشبه جمالهم، شموخهم، وهم يتحولون إلى رموز للنضال الإنساني في كل مكان، تحت الضوء، وصورهم تطوف العالم تحتضنها الضمائر البشرية وعشاق الحرية، وصور أولئك الأبطال الأسرى في سجون العنصرية الصهيونية، الأسرى الذين لم تستطع عتمة الزنازين أن تحجب ملامحهم. هؤلاء قادة الشعب الفلسطيني الحقيقيون، ومن يكون على صورتهم هو القيادة، هو ما ستحتضنه فلسطين، كل فلسطين، كما يحتضن باب العامود ثوار فلسطين وشرفها الحقيقي الذي كان دائمًا، ويظلّ، فوق الاحتلال، وفوق معاهدات الذل، وفوق صفقات التآمر، وفوق مزادات التبرع بفلسطين للصهيونية.
من يختار هذه الخيارات التي اختارها الشعب الفلسطيني فليبقَ، ومن يصرّ على تجاهلها والاستهانة بها، فليرحل.
وما ينطبق على هؤلاء، ينطبق على كلّ «تنظيم» يتشبّث بغرفة العناية المركزة إقامة دائمة مريحة له، وينطبق على عنجهية «نضالية» تكتفي بشتم كل إنجاز يحققه هذا الشعب، أفرادًا وجماعات، محليًّا وعالميًّا، لأن هذه الإنجازات لا ترقى (في نظرهم) لمرتبة تحرير فلسطين من الماء للماء! هؤلاء كلهم، الذين ينطبق عليهم كلام الأغنية، فليرحلوا:
تلوّى يا مهيوب وغنّي لحالكْ
موال الأرض ما هوّ موَّالك
لِبْلاد بتصرخ ولا على بالك
كإنّ القدس في «الهند الصينية»!